المؤامرة وأطراف النزاع في لبنان (السفير، 23/2/1977)

الرئيسية إصدارات الإمام (كتب / كتيبات) حوارات صحفية 2 - الوحدة والتحرير

راشد فايد

*الأزمة السياسية والعسكرية التي اجتاحت لبنان، انتقلت الى الجنوب لتقترن بأزمته السياسية والاجتماعية والأمنية المزمنة.
*وقف التدهور في الجنوب يستلزم وفاقاً سياسياً لبنانياً وموقفاً عربياً موحداً. ووضع الجنوب يدين الجميع.
*الإيمان بالله لا ينفصل عن الجهد في سبيل خدمة الناس وتخفيف آلامهم، ولذا اعتبر العمل السياسي أو الاجتماعي جزءاً من رسالتي الدينية دون أن أعتبر نفسي رجل سياسة.
*أنني أبذل الجهد الكبير في سبيل المصلحة الوطنية وإعادة اللحمة بين المواطنين.
*بعض عناصر "الحركة الوطنية" لا تقل مسؤوليتهم عن مسؤولية "الجبهة اللبنانية" في ما وصل اليه لبنان.
*القوى التي تآمرت على لبنان والمقاومة الفلسطينية والعرب، كانت أكبر من أطراف النزاع في لبنان.
*أناشد الجميع إعادة تقويم المواقف لئلا يصبح الجنوب ورقة رابحة في يد العدو.


*الجنوب هو الشغل الشاغل لكل مواطن: فهو بقي وحيداً خارج حلقة الأمن التي فرضتها قوات الردع العربية، والسكون السياسي بين الأطراف، المقترب من الاتفاق السياسي، لم يشمله. ما تقويمكم لوضعه؟
- لا شك أن قضية الجنوب برزت بوضوح كقضية ذات أبعاد سياسية تمتد الى مشكلة الشرق الأوسط، والى أبعد من ذلك، ولعلها ترتبط أيضاً بمنافسات الدول الكبرى في ما بينها.
وقضية الجنوب كشفت أيضاً، بعض الأبعاد السياسية للأزمة اللبنانية الأخيرة، ولا يشك أحد في أن وجود قوات الردع العربية في الجنوب لا يشكل تهديداً لأمن اسرائيل ولكن تهديدات اسرائيلية ملأت المسامع والصحف كادت أن تفجر الوضع في الشرق الأوسط عشية البحث في الحلول وفي الوقت الذي تتجه القوى الكبرى في العالم نحو حل الأزمة.

*إذاً ماذا يكمن وراء التهديد الاسرائيلي؟
- هناك أسباب داخلية في اسرائيل تعود الى زعامة حزب العمل الحاكم، كما تعود الى السباق السياسي عشية الانتخابات الاسرائيلية، كما أن أسباباً أخرى قد تكون وراء هذه التهديدات التي لم يسبق لها مثيل من قبل.

بقاء الجنوب في حالته الحاضرة نقطة ضعف في الصف العربي في وقت السلام ومفاوضاته، ثم إنه نقطة ضعف في الوضع اللبناني قد تحاول اسرائيل استغلالها والمساومة عليها لأخذ امتيازات مائية أو أمنية.

كما أن وضع الجنوب نقطة ضعف في وضع قوة الردع العربية، في حالتها الراهنة، حيث إن غياب الأمن عن منطقة تبلغ 30 بالمئة من أرض لبنان، يشكل تحدياً لقوات الردع ومقررات مؤتمري الرياض والقاهرة.

وأخطر ما في الأمر أن أسلوب التدخل الاسرائيلي، هذه المرة، يختلف عن السابق، حيث إنه يبدو وكأنه تدخل سلبي وبدوافع أمنية محضة مما يقلل من إمكان إدانة العالم لاسرائيل.

إن لهذه الأمور أبعاداً تكتشف من خلال الأحداث وتقرأ في ما وراء السطور، ولكن الواقع المعاش والصورة المرئية هي التالية:

أولاً: هناك قرى ومدن حدودية بدأت تنقطع بالتدريج عن العمق اللبناني، وبالتالي يجد المواطن فيها نفسه مضطراً الى التعامل مع اسرائيلز واذا لاحظنا بوادر اتساع الرقعة هذه ندرك خطورة الأمر، وان النتيجة من استمرار الوضع المتفجر في الجنوب هي انهيار الحاجز النفسي وسقوط المقاطعة العربية وبالتالي ترسيخ الكيان الصهيوني في المنطقة.

ثانياً: العلاقات الحسنة بين الجنوبيين على مختلف انتماءاتهم الدينية، كانت متينة منذ قرون عديدة، وتتعرض بفعل الأحداث لاهتزازات وأحياناً لجروح، وهذه خسارة كبيرة أخرى تتضاعف باستمرار، وتهدد كيان لبنان في الصميم.

ثالثاً: ثقل المحنة يبعد المواطن العادي في الجنوب عن امكان تحمل المسؤوليات القومية، خصوصاً عن مشاركته في قضية تحرير الأرض المقدسة.
وعلى الرغم من أن الصمود الذي لا مثيل له ظهر في موقف الجنوبيين حتى الآن، فإن المشكلة قائمة.

رابعاً: والمأساة الانسانية التي تتجاوز في حدودها الكوارث قائمة كل يوم وفي كل نقطة من الجنوب.

أمام هذه الأهوال والمصائب المكشوفة والمتسترة لا بد من القيام بعمل عربي موحد لأن المحنة تفوق امكانات لبنان.

بإمكاني أن ألخص محنة الجنوب في كلمة واحدة وهي أن الأزمة السياسية والعسكرية التي اجتاحت لبنان بكل أبعادها بقيت مستمرة تنمو من حيث النوعية ولكنها تحجمت من حيث الأبعاد المكانية فانتقلت الى الجنوب لكي تقترن بالأزمة السياسية والاجتماعية والأمنية التي كانت سائدة هناك منذ وقت طويل.

*كيف يمكن وضع حد لما يحدث في الجنوب؟
- إن عوامل الأزمة المتصارعة متعددة، ولا أعتقد أن حلاً عسكرياً يضمن الخطوة الأولى للحل وهي الأمن، ولكن القضية تحتاج بالاضافة للقوة العسكرية الى الحد الأدنى من الوفاق السياسي اللبناني والى موقف عربي موحد يشكل ضغطاً سياسياً على القوى العالمية التي تتمكن من الضغط على اسرائيل.

*هل يعني ذلك أن دخول قوى الأمن اللبنانية غير كاف، إذا تم؟
- لقد تحدثت عقب لقائي مع رئيس الحكومة عن ضرورة التعاون الشعبي مع قوى الأمن الداخلي لكي يعود السلام الى الجنوب، ومن الطبيعي أن تعاون الناس لا يمكن إلا مع حد أدنى من الوفاق السياسي، ولو كان محدوداً، وفي سبيل تخفيف الآلام عن الجنوب، أما اذا أمكن الوصول الى موقف عربي موحد، فإنه يحل المشكلة من أساسها، ويبقى السؤال: هل الجنوب اللبناني بتواضعه يدفع الدول العربية لمثل هذا الاتفاق؟

*إذاً، هل تعتبرون أن مؤتمري الرياض والقاهرة لا يشكلان حداً مقبولاً من الاتفاق والتضامن العربيين؟
- بلى... مؤتمرا الرياض والقاهرة كانا بداية هذا الموقف العربي الموحد، ويجب متابعة الأمر ووضع الدول العربية في الأجواء الراهنة.

*الى جانب الاتفاق العربي، تحدثتم عن الوفاق السياسي، ما دوركم فيه؟
- إن الطريق المتوافر لي هو الوصول الى الاتفاق السياسي عن طريق القمة الروحية وهذا ما أسعى اليه. أما الاتفاق السياسي عن غير هذا الطريق فانه يحصل عن أحد طريقين: إما المصالحة التي تأتي على أثر الحوار السياسي وإما عن طريق أخذ الرئيس الياس سركيس المبادرة واستطلاع الآراء واتخاذ المواقف وإصدار قوانين لازمة بشأنها.

*ما تقويمكم لمواقف الأطراف الآتية وعلاقتكم بها: الجبهة اللبنانية، الحركة الوطنية، الجبهة القومية؟
- في الواقع إنني لا أعتبر العمل السياسي أو الاجتماعي إلا جزءاً من رسالتي الدينية، بمعنى أن الايمان بالله في تصوري لا ينفصل عن الجهد في سبيل خدمة الناس وتخفيف آلامهم. كما أن هذا الايمان يحدد المسلك المطلوب، أي خدمة الناس، ذلك المسلك الذي يعتمد على الالتزام بالقيم الأخلاقية. لذلك كثيراً ما أتردد في تسمية هذا الجهد سياسة، كما أن الكثيرين يترددون في اعتباري من السياسيين.

هذا الخط العريض كان مسلكي قبل الأحداث اللبنانية وخلالها وبعدها، وهو الذي حدد علاقاتي مع الفئات السياسية في لبنان، وسيبقى ينظم العلاقات في المستقبل.

لقد كان موقف "الجبهة اللبنانية" في المرحلة الأولى من الأزمة وخلال الجولات العديدة في تصوري، موقفاً لا ينسجم مع قناعاتي ومسلكي، وبالتالي كان يشكل خطراً على وحدة لبنان وعلى سلامة أراضيه وعلى سيادته وعلى القضية القومية، خاصة على المقاومة الفلسطينية، وذلك لا يعني أن الطرف الآخر في تلك المرحلة كان يخلو من أخطاء أو انحرافات.

في هذه الفترة كنت أدعو إلى تطويق الحرب الأهلية التي كانت في حد ذاتها مؤامرة من جهة، ومن جهة أخرى، كنت مع جماعتي وحركتي وطائفتي وكل من يسمع مني، كنا جميعاً في موقف الدفاع، وسوف يحكم التاريخ بأن هذه المجموعة هي التي أحبطت المؤامرة. وكان موقف "الجبهة اللبنانية" أيضاً منا موقفاً متشنجاً، بقيت آثاره مع الأسف حتى الآن. وجاءت المرحلة الثانية من الأزمة أي ما بعد صدور الوثيقة الدستورية والهدنة التي أعلنت نتيجة للوساطة السورية.

في هذه المرحلة وجدت أن الأحزاب انحرفت وبدأت تأخذ دوراً يهدد الوطن بالتقسيم بل بالتمزق، كما أنه كان من نتيجة مواقفها سقوط المقاومة الفلسطينية بوجه خاص، والقضية القومية بوجه عام، وهنا أعلنّا موقفنا من الأحزاب، وانسحب ممثل حركة المحرومين من اجتماعات الحركة الوطنية، وبدأت أعمل مع قمة عرمون في معالجة الوضع، ومن الطبيعي أن هذا الموقف خلق تشنجاً لدى الأحزاب فشنّت هجوماً قاسياً وتجاوزت كل حد، وحاولت أن تستدرج المقاومة الفلسطينية في العداء والتهجم.

لا أريد أن أتحدث في تفاصيل ما جرى، فالنتائج حكمت على فداحة الأخطاء في الأهداف وفي الوسائل لدى الحركة الوطنية التي أعتبر أن بعض عناصرها لا تقل مسؤوليتهم في ما وصلت اليه البلاد بل ما وصلت اليه المقاومة الفلسطينية عن مسؤولية "الجبهة اللبنانية".فإني لا أتمكن من تفسير الحملة التي شنتها الأحزاب هذه وتورطت بكل أسف معها أكثر الصحف الوطنية عندما سقطت النبعة، مع العلم أنني لا أعرف أحداً أو مؤسسة قدمت لصمود النبعة ما قدمناه من جهد سياسي وتحييد للأرمن وإقامة لمستشفى وإرسال وسائل تموينية وأدوية وغيرها للمحاصرين، وأخيراً، كانت حركة المحرومين التنظيم الوحيد الذي دافع لآخر فرد في النبعة، فقد قتلوا جميعاً، بينما جميع المسؤولين العسكريين والسياسيين لدى التنظيمات الأخرى، هم اليوم في بيوتهم وبين أهلهم ينظرون ويتهمون ويفتخرون.

إن المقياس الوحيد لعلاقاتي وعلاقات الحركة مع الناس هو الهدف الصحيح والسلوك الصحيح. فلا يمكن الوصول الى الأهداف الصحيحة مع المسلكية التي مورست من خلال أطراف الصراع في الأزمة اللبنانية.

أما علاقاتنا مع الجبهة القومية فهي مجرد تلاقٍ في الهدف وفي مرحلة من الزمن عندما كانت تحاول جبهة الأحزاب والقوى الوطنية أن تتخذ قراراتها بصورة عشائرية وبوسائل لا تتفق مع أهدافها المعلنة.

*ما احتمالات اللقاء سياسياً حالياً، مع الجبهة اللبنانية والحركة الوطنية؟
- سبق وقلت إني لا أعد نفسي رجل سياسة، وإنما انطلق في تحركي العام من منطلق الإيمان بالله الذي لا ينفصل عن الايمان بخدمة الانسان وعن الالتزام بالقيم، ولذلك فان اللقاء والخلاف عندي لا يمكن أن يكونا نابعين من الظروف، بل يجب أن يكونا منطلقين من المبدأ.

في ضوء هذه المقدمة، وعندما أستعرض المأساة اللبنانية، أجد فيها الكثير من الممارسات التي لا تنسجم مع الالتزام بالقيم ولو في حد أدنى، مثل الاعتداء على الأبرياء والانتقام الطائفي، واطلاق القذائف على المدنيين وعلى المؤسسات الانسانية، ثم استعمال الأسلوب التحريضي في الاعلام مع عدم الصدق.

إن هذه الممارسات حصلت من الحركة الوطنية كما حصلت من "الجبهة اللبنانية" في خلال الأحداث، وأنا مقتنع أن كثيراً مما حصل لم يكن صادراً بناء على أوامر قيادية ولكن القياديين تحملوا مسؤولية ما حدث، بل حاولوا توظيف هذه الأعمال على الصعيد السياسي وهذا معنى المؤامرة، لأن القوى التي تآمرت على لبنان وعلى المقاومة الفلسطينية وعلى العرب كانت أكبر من أطراف النزاع في لبنان واستغلت الثغرات الموجودة في الجبهتين، وكان من المطلوب أن تتبرأ القيادات مما يحدث، ولم يحصل هذا التبرؤ مع الأسف.

اذاً، اللقاء العملي مع أصحاب الممارسات هذه أو مع من تحمل مسؤولية هذه الممارسات، غير ممكن الا اذا أعلنت القيادات يمينها ويسارها، تبرؤها مما حدث. وعندما أقول هذا الكلام، لا أقصد الاساءات التي مورست ضدي وضد طائفتي، والحركة، فإن هذه الاساءات ترد، كما يعلمنا القرآن الكريم، بالاحسان، عندما يقول ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾ [فصلت/34]. وإنما أنطلق من قضية المبدأ لكي أصل الى النتيجة التالية: إن اللقاء العملي مع أطراف النزاع من دون التبرؤ أو البراءة من الممارسات تلك يتنافى مع ايماننا وقناعاتنا.

ومن جهة أخرى، فإن الأهداف التي كانت للمؤامرة كانت واضحة وقد أعلن عنها مرات ومرات، واعترف بها جميع الأطراف، ومع ذلك، كانت الأطراف المتنازعة تتابع تشنجها وفعلها أو ردها للفعل، وهذا يفسر إما بقصور القادة عن رؤية أبعاد تحركهم وإما التورط. وفي كلتا الحالتين، لا يمكن اللقاء الاستراتيجي الا مع البراءة أو التبرؤ مما حصل.

كيف يمكن الدفاع عن المذابح والمآسي والاعتداءات التي تعرض لها الأبرياء والأطفال والنساء، بل والعلماء والاساتذة وغير ذلك؟
لا أريد من قبلي أن أسد الأبواب. كيف وانني أبذل الجهد الكبير في سبيل المصالحة الوطنية وإعادة اللحمة بين المواطنين، ولكني أقول إنه لا بد من وضع خطة واضحة لأهداف واضحة، وبسلوكية واضحة تكون الخطة والأهداف والسلوك تختلف عن التي كانت في خلال الأحداث، بل وعن التي كانت قبل الأحداث، وأدت الى الأحداث.

قد تكون هذه الشروط موسكوفية، وقد لا أكون في تصور الأطراف أملك حق أو إمكان فرض الشروط ولكني أعبر عن ضمير المواطنين وعن مصلحة الوطن العليا وأقول لا يمكن بناء الوطن الا على أساس أهداف إنسانية وبسلوك مناقبي انساني.

*لم تخرج المصالحة الوطنية حتى الآن عن اطار الكلام والشعار. ما هو تصوركم لطريقة اتمامها؟
- في تصوري أن المصالحة الوطنية بالشكل العشائري وبشعار لا غالب ولا مغلوب وبصيغة الصفاء هي عمل فاشل، وتأخير للحل، وبالتالي تغطية للجرح.

كذلك فإن المصالحة في ضوء حوار يوضح تفاصيل المستقبل داخلياً وعربياً وخارجياً، أمر عسير، لأن الحوار هذا طويل.. طويل، وطالما أن التجارب الاجتماعية في تطور ونمو دائمين، فيمكن أن نقول إن هذا الحوار، ليس علاجاً متوافراً للوطن ولا سبيلاً سهلاً للمصالحة.

اذاً لا بد من اختيار طريق منطقي، وهو إجراء المصالحة في ضوء الخطوط العريضة للبنان المستقبل. وطريق تنفيذ هذه المصالحة هي إما بواسطة القمة الروحية، كما ذكرت في بداية الحديث، أو عن طريق مبادرة الرئيس الياس سركيس نفسه، بأن يستطلع آراء الجميع ويختار الصيغة التي تلبي رغبة أكثرية الشعب اللبناني، ثم يطرح هذه الصيغة على الاستفتاء العام، وإن لم يكن وارداً في الدستور، ولكن الاستفتاء هو صانع الدساتير وليس الدستور هو الذي يسمح بالاستفتاء أو لا يسمح.

*الآراء السياسية متفقة على أن اكتمال صورة لبنان الجديد تنتظر اثنين: الاتفاق السياسي واعادة بناء الجيش. ما هي برأيكم صيغة الجيش الجديد؟ وما رأيكم في المرسوم الأخير بصدده؟
- ان الجيش هو العمود الفقري لبناء الدولة، وهو سياج الوطن والبوتقة التي ينصهر فيها أبناء لبنان ليصبحوا مسلكية وهدفاً مواطنين صالحين. إنه درع الوطن والمواطن أمام الأعداء في الخارج وأمام الأعداء في الداخل، وأمام نقاط الضعف والثغرات الداخلية التي تفوق في أخطارها، خطر العدو الخارجي.

لذلك فإن جيش لبنان المقبل في تصوري يجب أن يبقى واحداً، يعتمد في اختيار كوادره وقياداته على الكفاءة فحسب من دون أية ملاحظة طائفية، وأهم من ذلك يجب الاتفاق على قضية الجيش التي هي قضية الوطن، بكامل أبعادها، وبوضوح مطلق، من دون مجاملة ونفاق.

أما مرسوم تنظيم الجيش الذي في تصوري هو الخطوة الأولى، فإنه هو الصورة الكريمة الوحيدة لمعالجة المحنة التي عصفت بالجيش اللبناني، ولا أعتقد أن الوطن بوضعه الحالي وبعد مرور الأزمة المأساة يتمكن من إجراء تصفية قسرية أو تسريح لا يليق بكرامة الضباط.

ان الملاحظة الوحيدة على المرسوم هي الوقت الذي كنا نتمنى أن يكون أقل من ثلاثة أشهر، رغبة في الاستعجال لبناء الجيش السليم.

*ترتفع بعض الأصوات في الدعوة الى التعددية، ويرى أصحابها أنهم قد يتخلون عنها في جميع المجالات، الا في القضية الدفاعية. ما رأيكم؟
- إن التعددية صفة مطاطة، يدعم بعض مصاريعها الوحدة. فالانسان الجسد مثلاً تعددية أعضائه في الكم والنوع والوظيفة تساعد على تماسك الجسد ووحدته والعائلة أيضاً. حتى ان المجتمع لو كان أبناؤه جميعاً ذوي صفات متشابهة في الشكل وفي الكفاءة وفي الاحساس وفي الطموح، فإنه لم يكن يتوحد يوماً، حيث إن وحدة المجتمع برغم كثرة أفراده هي بتنوع هؤلاء الأفراد: حيث يحتاج كل منهم الى الآخر نتيجة لتفاوت الكفاءات والأحاسيس والطموحات.

وهذا معنى المبدأ الفلسفي والاجتماعي المعروف، إن الكثرة في الوحدة وإن الوحدة في الكثرة. وفي لبنان لا شك أن نوع التعددية يختلف نتيجة لوجود الطوائف الدينية عن التعددية في بلاد أخرى حيث إن مجتمعاتها تضم متناقضات، في اللغة وفي العنصر وفي العقيدة، وحتى في التاريخ. بينما تعددية لبنان ليست تعددية متناقضة، بل إنها متكاملة، فالفرق بين المسلم والمسيحي، مع الإيمان بالله وبما يستتبع هذا الايمان من الالتزام بالقيم ومع وجود لغة واحدة وتاريخ واحد وطموحات مشتركة وحتى مع الشبه الكامل في الشكل واللهجة والحركات والعادات القومية، إن الفرق بين المسلم والمسيحي هو فرق أحد المتكاملين مع الآخر، بينما في البلاد الأخرى، حتى في بعض البلاد العربية، نجد المجتمع يضم عناصر متفاوتة في الشكل واللون واللهجة واللغة والتاريخ، حتى ان التفاوت بين الأحزاب بما بين الأحزاب من تفاوت ايديولوجي، ومع ذلك فإن تلك التعدديات توظف في سبيل توحيد البلاد فكيف بلبنان، البلد الصغير في مساحته والكبير بقوة أهله ووحدتهم.

يبقى الشرط اللازم لتوحيد الكثرة والتعدد، وهو الحرية أولاً، والاحترام والثقة المتبادلان ثانياً، والقضية الوطنية التي تعبر عن الآمال والطموحات وعن الآلام والحاجات وحتى عن المرحلة التاريخية ثالثاً

*رفض التعددية، هل يشمل اللامركزية الادارية؟
- اللامركزية الادارية هي الأسلوب المتطور للادارة والحكم، ولكن يجب أن تكون المحافظات أو الأقضية غير منقسمة بالشكل الطائفي، وبتعبير أدق، لا تكون المحافظات أو الأقضية هي الجبهات المتصارعة.

*ما الجديد في قضية المهجرين؟
- ان المشكلة في طور الحل، وهي في الدرجة الأولى مشكلة أمنية، ولذلك فإنها مرتبطة بضبط الأمن من جهة وبتخفيف التوتر أو ما سميناه الحد الأدنى من الوفاق السياسي. وبشكل كلي، ومن خلال اتصالاتي، أتصور أن مشكلة المهجرين منتهية ولكنها قضية الوقت.

*كانت القضية الاجتماعية نافذة لكم على المواطنين. هل طرحتموها حالياً على المسؤولين؟
- من حسن الحظ ان الرئيس الياس سركيس هو رجل القضية الاجتماعية وأنه لم يكن بعيداً عن الحرمان احساساً وعيشاً، ولقد كنت أعرف دراساته التفصيلية عن مسائل التنمية، وشاهدنا أن كلمة العهد الأولى تضمنت بشكل واضح القضية الاجتماعية، ثم ان شخصية رئيس الوزراء من الناحية الفنية تجعل منه رأس جهاز مناسب لاستيعاب المحنة ووضع خطة لعلاجها، ولقد قال منذ يومين إنه مستعد للاستماع وللاجتماع بأي وفد يمثل قطاعاً من قطاعات المجتمع المحتاج الى الرعاية فإن هذا أدنى درجات مراعاة حقوقهم.

من جهة ثالثة فإن الدراسات التي توضع من قبل المواطنين أو المؤسسات أو تلك التي حصلت التجربة عليها في الخارج يمكن تقديمها الى الحكومة مع التأكيد من أنها لا تهمل. وبكلمة، برغم ضخامة المسؤولية الاجتماعية فالأمل يضيء.

*ما موقفكم من اتحاد فيدرالي بين سوريا والأردن ولبنان؟
- في حدود معلوماتي لم يطرح حتى الآن موضوع الاتحاد الفيدرالي أو الكونفدرالي مع لبنان، ولكنه مطروح مع غير لبنان من الدول العربية أما مع لبنان فلا شك أن المسألة بحد ذاتها بحاجة الى اتفاق الجميع لا موافقة الأكثرية لظروف لبنان العادية وللظرف الاستثنائي الذي يعيشه.

ان التجربة الأوروبية التي بدأت بالأمور الاقتصادية الجزئية ثم مع السوق الأوروبية الى جانب مجلس البرلمان الأوروبي واجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين، ثم تلك التجربة التي بدأت بين سوريا ومصر وبتوحيد القيادة السياسية وايجاد قيادة جبهتين (مصر وسوريا) والتجربة المعاشة بين سوريا والأردن منذ حوالي سنتين بصورة هادئة ومدروسة، إن هذه التجارب معالم في الطريق تمنع الارتجال والتشنج والأخطاء.

أما بصورة مبدئية فلا أعتقد أن أحداً يرفض التوسع في وجوده وفي مساحة عمله، وفي حجم عائلته، وفي السير نحو الطموح الحضاري بتكوين دولة كبرى في الشرق الأوسط ناهيك عن التحدي الدائم من خلال وجود اسرائيل.

*في تقدير بعض المحللين، أن موقع العرب في الصراع العربي - الاسرائيلي صار أضعف مما كان عليه في السابق. ألا يؤثر ذلك، برأيكم على مسيرة السلام في لبنان؟
- ان السلاح الوحيد المؤثر بيد العرب في هذه الفترة الزمنية من التاريخ، هو سلاح التضامن والتنسيق بين الدول العربية وبين شعوبها. كما أن السلاح الفعال الوحيد بيد العدو الاسرائيلي ليس طائرات ميراج ولا الصواريخ التلفزيونية ولا حتى القنابل الارتجاجية، ولكنه الخلاف في صفوف العرب.

هكذا راهن مؤسسو اسرائيل، وهكذا دلت التجارب، وهكذا يحكم المنطق البسيط في الحياة. فالعالم العربي واسع وهو اذا كان واحداً فإن العدو ينهار لمجرد وجوده في هذا الخضم من البشر، وبين أنفاسهم. وهنا نصل الى العلاج السهل الممتنع الذي نرجو أن يكون في بدايته. وهنا أتذكر حديثاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث يقول: إن أخشى ما أخافه على أمتي أن تتداعى عليها الأمم كما يتداعى الأكلة على قصعتها. قيل: أَمِنْ قلة يا رسول الله؟ قال: لا... إنهم كثر ولكنهم غثاء كغثاء السيل.

وسوف يكون الرهان في المستقبل في الحرب وفي السلام، وفي المفاوضات وبعدها وفي السياسة والحرب العسكرية والاقتصادية والمالية والديبلوماسية والإعلامية وغيرها، سوف يكون الرهان في تصوري على هذا المبدأ.

أحب أن أختم حديثي بالجنوب الذي بدأنا به لأؤكد للمواطنين أن وضع الجنوب اليوم، من دون مبالغة في القول، أو مزايدة في التعبير، يقض مضجع كل ذي ضمير، فكيف بالمواطن، اذا عرف ماذا يجري هناك، ولذلك فإنني لا يمكنني أن أفهم موقف المتصارعين الذين جربوا حظوظهم في الحرب الأهلية ولمدة سنتين، فوجدوا أن الانتصار صعب ومكلف وليس مطلقاً. وها هم يتابعون تجربتهم هناك، ولذلك فإني أناشدهم، باسم الوطن، كل الوطن، وباسم الانسان في كل مكان أن يعيدوا تقويم المواقف وأن يضعوا خطة تضمن السلام المحدود في الجنوب والانقطاع عن العدو فوراً، حتى لا يكون الجنوب ورقة رابحة في يد العدو يستعملها ضد لبنان فيساوم، وضد العرب فيضعفوا، وضد العالم فيفرض مزيداً من الشروط.

ان وضع الجنوب إدانة للجميع، وسوف يحكم التاريخ من خلاله ومن خلال المواقف تجاهه، ولا شك أن حكم الله أصرح وجزاؤه أوفى وعذابه أخزى.