أكثر من اثنين وعشرين عاماً انقضت وعائلة الإمام الصدر وأبناء وطنه مازالوا ينتظرون عودته ورفيقيه من ليبيا.
إثنان وعشرون عاماً انقضت على غياب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السيد موسى الصدر عن وطنه وأهله منذ زيارته ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي الأستاذ عباس بدر الدين إلى ليبيا بدعوة رسمية من سلطاتها في 25آب 1978. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم والقرائن تؤكد أن إخفاء الإمام ورفيقيه حصل في ليبيا، وأن السلطات الليبية - والقذافي تحديداً - هي المسؤولة. هذه بالتحديد كانت النتيجة التي خلصت اليها أجهزة الأمن والقضاء الايطالية، كما أجهزة الأمن اللبنانية، التي كذبت بعد تحقيقات مطولة ولأكثر من مرة الادعاء الليبي الرسمي بأن الإمام ورفيقيه تركوا ليبيا متجهين إلى ايطاليا.
فمن هو الإمام الصدر؟ وما هي قضية إخفائه؟
ولد الإمام الصدر في ايران 1928 لعائلة من أصل لبناني (حول حياة الإمام الصدر راجع "الإمام موسى الصدر: محطات تاريخية " اعداد حسين شرف الدين ، دار الارقم، 1996). تابع تحصيله العلمي في مدارس ايران وجامعاتها وتخرج مجازاً في الاقتصاد السياسي من جامعة طهران في الوقت الذي كان يتابع فيه دراسة دينية في حوزاتها العلمية. شارك في تأسيس مجلة شهرية "مكتب اسلام"، مازالت تصدر حتى الآن، وتولى رئاسة تحريرها ونشر فيها العديد من الأبحاث ( أصدر مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات بعضاً من هذه الأبحاث مترجمة عن الفارسية في كتابين: "المذهب الاقتصادي في الاسلام" و "الاسلام والتفاوت الطبقي"). كما أنشأ مع آخرين مؤسسات تعليمية ما قبل جامعية، أدارها ودرّس فيها.
انتقل إلى العراق لمزيد من التحصيل العلمي باحثاً ومحاضراً في جامعاتها ومنتدياتها الثقافية وحط به الرحال في لبنان سنة 1959 كمرشد لإحدى مدن الساحل اللبناني صور.
في صور- لبنان لم يقتصر عمل الإمام الصدر على الرعاية الدينية بل تجاوزها ليشمل الخدمة العامة ببعدها التنموي المعاصر، وذلك ايماناً منه بأهمية الإنسان، حريته وكرامته وبتنمية أبعاد شخصيته ليتكامل ويرتقي.
عمل على إنشاء مؤسسات عامة تعنى بالشؤون التربوية، المهنية، الصحية والاجتماعية. فكان من القلة السبّاقين للعمل على مستوى لبنان كله بمدنه وقراه زائراً مناطق الحرمان معايشاً إنسانها وهمومه، مُنشأً علاقات مع تجمعاته، محاضراً في الكنائس والجوامع والجامعات والأندية، داعياً إلى نبذ الطائفية والعنصرية (الأديان واحدة في البدء والهدف والمصير) ( راجع خطبته في كنيسة الآباء الكبوشيين في كتاب "أبجدية الحوار" الصادر عن مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، اعداد حسين شرف الدين سنة 1997). ومكافحة الآفات الاجتماعية واحترام الإنسان وحرياته (الحرية أم الطاقات) وتنمية مواهبه وكفاءاته، مُحثاً على التفاعل بين الجماعات والثقافات والحضارات، مما أكسب سعيه وحركته شعبية تجاوزت نطاق رعيته وشملت رموزاً وشخصيات سياسية وفكرية ودينية متعددة الانتماءات والولاءات. واعتبر برأي الكثيرين رمزاً من رموز الوحدة الوطنية، ومن السبّاقين في إطلاق موضوع الحوار
الاسلامي - المسيحي والعاملين على تهيئة الظروف المناسبة لإنجاحه.
شارك الامام الصدر في "الحركة الاجتماعية" مع المطران غريغوار حداد في عشرات المشاريع الاجتماعية. وساهم في العديد من الجمعيات الخيرية والثقافية. أعاد تنظيم "جمعية البر والاحسان" في صور وتولى نظارتها العامة، وجمع لها تبرعات ومساعدات أنشأ بها مؤسسة اجتماعية لايواء وتعليم الأيتام وذوي الحالات الاجتماعية الصعبة ثم أنشأ مدرسة فنية عالية باسم "مدرسة جبل عامل المهنية" وأنشأ مدرسة فنية عالية للتمريض وكذلك مدرسة داخلية خاصة للبنات باسم "بيت الفتاة". كما أنشأ في صور "معهد الدراسات الاسلامية"، وعمل على تأسيس جمعية "كشافة الرسالة الاسلامية".
عمل جاهداً على وقف الحرب الأهلية في لبنان (فالسلاح لا يبني الأوطان ولا الانسان) بمبادراته ومواقفه ونداءاته الرائدة والتي توجّها باعتصام استمر لأيام خمسة احتجاجاً على استمرار الحرب. ووقف بشدة في وجه استغلال السياسيين للدين وضد فرض ِالاصلاحات الاجتماعية والسياسية بواسطة السلاح، فهذه لا يمكن تحقيقها إلا بالحوار والتعقل. أكد أن لبنان ضرورة حضارية للعالم وأن التعايش اللبناني هو ميزة لبنان ورسالته (ثروة يجب التمسك بها) وأساس للتواصل الحضاري بين شعوب المنطقة.
سافر الإمام الصدر إلى بلدان عدة عربية وافريقية وأوروبية (راجع "حوارات صحفية- الجزء الأول: تأسيساً لمجتمع مقاوم" الصادر عن مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، سنة 2000)، وشارك في مؤتمرات عديدة في العالم العربي كما في أوروبا (جامعة ستراسبورغ في فرنسا 1968؛ مؤتمر السلام في باريس 1974). اتصل والتقى بشخصيات عالمية (حضر حفل تتويج البابا 1963- ليبولد سنغور - اللورد كارادون، جاك شيراك، عبد الناصر وغيرهم)، كما كتب في كثير من الصحف العربية والايرانية والاوروبية (منها Le croix ، Le monde).
متزوج منذ سنة 1955 وله أربعة أولاد.
إخفاء الامام الصدر في ليبيا (راجع الدراسة التي أصدرها مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات حول ملف الإخفاء بعنوان "الحقيقة لن تغيب"، سنة 2000، والتي نشرتها جريدتا النهار بتاريخ 2001/2/12 والديار بتاريخ 12/2/2001 ).
سعياً لإنهاء الحرب اللبنانية، بادر الامام الصدر إلى القيام بجولة على بعض الدول العربية داعياً لعقد مؤتمر قمة عربي محدود وكانت آخر محطة في جولته هذه الجزائر. أثناء الاجتماع مع الرئيس بومدين أشار الأخير على الإمام الصدر بزيارة ليبيا، لما للقذافي من تأثير على مجريات الوضع العسكري - السياسي اللبناني.
زيارة ليبيا :
وصل الامام الصدر إلى ليبيا بتاريخ 25/8/1978 يرافقه الشيخ محمد يعقوب والصحافي الأستاذ عباس بدرالدين في زيارة رسمية من أجل عقد اجتماع مع القذافي كما أعلن قبيل مغادرته لبنان، وحلوا ضيوفاً على السلطة الليبية في "فندق الشاطئ" بطرابلس الغرب.
انقطاع الأخبار :
أغفلت وسائل الاعلام الليبية أخبار وصول الامام الصدر إلى ليبيا ووقائع أيام زيارته لها، ولم تشر إلى أي لقاء بينه وبين القذافي أو أي من المسؤولين الليبيين الآخرين. وانقطع اتصاله بالعالم خارج ليبيا خلاف عادته في أسفاره حيث كان يكثر من اتصالاته الهاتفية يومياً بأركان المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، بأصدقائه في لبنان وبعائلته.
الاتصالات الرسمية :
بعد أن تأخرت عودة الامام الصدر ومرافقيه من ليبيا، واستمر الاتصال بهم منقطعاً، طلب المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى من القائم بالأعمال الليبي في لبنان بتاريخ 6 أيلول 1978 معلومات في الموضوع، فماطل في إجابة الطلب أربعة أيام عرض بعدها المجلس الموضوع على رئيس الحكومة اللبنانية الدكتور سليم الحص الذي استدعى على الفور القائم بالأعمال الليبي بتاريخ10 أيلول 1978م وأكد له الطلب رسمياً وبصورة مستعجلة. فأجابه ظهر اليوم التالي "أن الإمام الصدر ومرافقيه غادروا ليبيا مساء يوم 31 آب 1978م إلى روما على متن طائرة الخطوط الجوية الايطالية ( الرحلة رقم )881".
نظراً لما أثاره هذا الجواب من قلق، حاول رئيس الجمهورية اللبنانية الأستاذ الياس سركيس بتاريخ 12 أيلول 1978م الاتصال هاتفياً بالقذافي، لاستيضاحه في الموضوع، إلا أن هذه المحاولة لم تنجح بالرغم من تكرارها مراراً في اليوم ذاته، بسبب تهرب القذافي من الرد على محاولات الرئيس سركيس.
المعلومات الأولية :
ثبت في التحقيقات أن الامام الصدر شوهد في ليبيا مع رفيقيه لآخر مرة، يغادرون الفندق بالسيارات الليبية الرسمية الموضوعة بتصرفهم، في الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم31 آب متجهين للاجتماع بالقذافي الذي اعترف لوفد اجتمع به في دمشق بتاريخ 21/9/1978 بأن موعد الاجتماع حُدد فعلاً في الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر يوم 31 آب، إلا أنه أنكر حصول الاجتماع وزعم أنه فوجىء بإبلاغه ان الامام الصدر ورفيقيه غادروا ليبيا دون تحقيق الاجتماع.
موقف السلطات الليبية من الإخفاء:
تجاهلت السلطات الليبية في البدء قضية إخفاء الامام ورفيقيه. وبعد تفاعل القضية إعلامياً ودولياً، اضطرت إلى إصدار بيان رسمي بتاريخ 17/9/1978 متضمناً مغالطات مكشوفة وزعماً بأن الامام الصدر ورفيقيه غـادروا ليبيا دون إعلام السـلطات الليبية مساء 31/8/1978، إلى ايطاليا على متن طائرة أليطاليا.
تحقيق البعثة الأمنية اللبنانية:
بتاريخ 13/9/1978 كانت السلطة اللبنانية قد أوفدت إلى ليبيا وايطاليا بعثة أمنية سياسية للتحقيق في القضية.
رفضت السلطات الليبية السماح لهذه البعثة بدخول أراضيها، فتوجهت إلى روما وأنجزت مهمتها بمدة خمسة عشرة يوماً، وقدمت في مطلع شهر تشرين الأول 1978تقريرها المتوافق مع تقارير الأجهزة الأمنية الايطالية، وخلص إلى النتيجة الآتية:
إن الإمام الصدر ورفيقيه لم يصلوا إلى روما وانهم لم يغادروا ليبيا في الموعد والطائرة اللذين حددتهما السلطة الليبية في بيانها الرسمي.
التحقيق القضائي الايطالي الأول ونتائجه:
توصل المدعي العام في روما بتاريخ 19/5/1979 وقاضي تحقيق روما بتاريخ 7/6/1979، إلى جواب سلبي حول ما إذا كانت الشخصيات الثلاث قد وصلت إلى ايطاليا، وبصورة محددة على متن رحلة طائرة أليطاليا رقم 881 من طرابلس الغرب إلى روما مساء يوم 31 آب 1978 كما ادعى البيان الليبي الرسمي. بل أكدت التحقيقات الايطالية جازمة بأن أياً من الثلاثة لم يغادر ليبيا ولم يصل إلى ايطاليا بأية وسيلة نقل.
وقد أبلغت الحكومة الايطالية رسمياً كلاً من الحكومات المعنية أن الامام الصدر ورفيقيه لم يدخلوا الاراضي الايطالية ولم يمروا بها ترانزيت .
التحقيق القضائي الايطالي الثاني:
بهدف مغايرة نتائج التحقيقات الايطالية تقدمت السلطات الليبية من السلطات الايطالية بطلب بتاريخ 15/2/80 لإعادة التحقيق القضائي في القضية، معززة طلبها بتحقيق أمني ليبي - ثبت فيما بعد تزييفه - أجراه عقيد في جهاز الأمن الليبي ادعت أنها باشرته بتاريخ 3/11/79 (أي بعد أكثر من أربعة عشر شهراً على حصول الجريمة).
وبعد تحقيقات واسعة أجراها القضاء الايطالي مجدداً ووقف فيها على أدلة جديدة وانتقل خلالها معاون مدعي عام الجمهورية الايطالية الى ليبيا ثم لبنان حيث استمع في تحقيقاته إلى شهود عديدين، لفظ القضاء الايطالي قراره النهائي بمطالعة النيابة العامة في روما تاريخ 20/12/81 وقرار قاضي التحقيق تاريخ 82/1/28 المتوافقين، والمتضمنين تثبيت نتيجة التحقيق الايطالي الأول، بالاضافة إلى إعلان تزييف التحقيق الأمني الليبي.
موقف القضاء اللبناني:
أصدر القاضي طربيه رحمة المحقق العدلي قراره الظني بتاريخ18/11/86 متضمناً الأدلة وشهادات الشهود على اختفاء الامام ورفيقيه داخل الأراضي الليبية وعلى أن أشخاصاً آخرين انتحلوا شخصياتهم وزيفوا آثاراً لدخولهم الأراضي الايطالية.
وانتهى القرار بإصدار مذكرة تحرٍ دائم توصلاً لمعرفة الفاعلين والمحرضين والمتدخلين في الجرائم موضوعها.
بتاريخ 22/5/2001 واثر استدعاء تقدم به نجل الامام الصدر السيد صدر الدين وزوجتي الشيخ يعقوب والاستاذ بدرالدين لاتخاذ جميع الاجراءات القانونية للتوسع في التحقيق ، أصدر النائب العام التمييزي القاضي عدنان عضوم، بصفته نائباً عاماً عدلياً قرارا أكد فيه متابعته تنفيذ قرار المحقق العدلي القاضي طربيه رحمة في قضية اختطاف الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين في 31/8/1978، لجهة اصدار مذكرة تحر دائم والمعتبرة سارية المفعول لتاريخه، كما قرر عضوم استنابة كل الاجهزة الامنية المعتبرة ضابطة عدلية لاجراء التحريات اللازمة لمعرفة هوية الخاطفين وتحديد مكانهم واتخاذ التدابير لتوقيف الفاعلين والمتدخلين والمحرضين.