الدين في عصرنا الراهن - فخامة الرئيس سماحة السيد محمد خاتمي

الرئيسية إصدارات كلمة سواء مؤتمر كلمةٌ سواء العاشر: التنمية الإنسانية: أبعادها الدينية والإجتماعية والمعرفية ... وإشراقات من فكر الخاتمي

اليوم الأول - الجلسة الافتتاحية

فخامة الرئيس سماحة السيد محمد خاتمي

بسم الله الرحمن الرحيم

في حفل‌ٍ مهيبٍ كهذا يقام باسم عالمٍ دينيًّ كبيرٍ متبصرٍ عارفٍ لزمانه، أي سماحة الامام موسى الصدر، لا بدّ من الحديث عن الدين؛ ذلك الدين الذي يحرر الانسان من الجهل والعنف والظلم، وهو بالذّات ما نذر الامام موسى الصدر حياته من أجله. فرغم كون الامام الصدر زعيماً للشيعة في لبنان، إلا أنّه الأب الرؤوف والمعلم المشفق لأتباع كافّة الأديان والطوائف. إذ كان ينشد الاستقرار والحريّة والاستقلال والتقدّم للبنان العزيز ويصبو إلى العيش المشترك للمسلم والمسيحي والدرزي والشيعي والسني جنباً إلى جنب، ينعمون بكل ما منّ الله تعالى به على عباده، ومعتبراً الجميع جديرين بتلك النعم. وإذ ترفّع فكره السامي وروحه اللطيفة عن الحدود المصطنعة والتقسيمات والتكتّلات السياسيّة والقوميّة المفتعلة، فإنّه أراد، و باسم الاسلام النبراس، الحريّة والعزّة للبشريّة جمعاء.

واليوم إذ نفتقد حضور الامام موسى الصدر وتواجده بين ظهرانينا، فإنّ فكره ومبتغاه يشكلان حافزاً لكل لبنانيٍ أبيّ ويرفدان المقاومة اللبنانيّة البطلة ويسريان دفقاً وعطاءً في نفوس اولئك الذين ينشدون الرفعة للبنان العزيز ويتصدّون للمؤامرات التي تستهدف استقلال لبنان وكرامته. إنّنا لا نزال نترقّب عودة هذا العزيز المغيّب؛ ذلك أنّنا بأمس الحاجة إليه في هذا الزّمن الصعب.

الدين قديم قدم وجود الانسان، وهذا بالذات يدلّ على انّه فطريّ ومتجذّر في الذّات الانسانيّة. فالدين هو الذي أوجد الحضارات والثّقافات. وحتى في عصرنا الحالي فإنّ الحضارة الجديدة وإن نشأت منفصمةً عن التّراث، فهي مدينة للغاية للثقافة الدينيّة. فيا ترى من يسعه أن يغضّ الطّرف عن تراث المسيحيّة الباهر في كل جانبٍ من جوانب الحضارة الجديدة هذه، رغم انّ من وضعوا لبنة هذه الحضارة ونظّروا لها يعتبرونها لا دينيّة ولا يقرّون هم بنزعتهم الدينيّة. وربّما كان الفارق الأساس بين العالم الحديث وما سبقه هو انّ الحضارات والثّقافات الغابرة كانت برمّتها دينيّة ولا تتنكّر لطابعها الديني.

لقد واجه الدين في كلّ مكان و عبر كلّ الحقب معارضين شرسين. ولمحاربة الدين، كالدين نفسه، ماضٍ سحيق. لكنّ معاداة الدين في الماضي كانت تنطلق من موقفٍ دينيّ، إذ كان دينٌ ما يناهض ديناً آخر، فيما كان المستهدفون من أتباع الدين ينبرون للدفاع عن دينهم. وفضلاً عن الحروب الدينيّة التي شهدها التاريخ، فإنّ الفكر الانسانيّ يدين في رقيه وتطوّره أكثر ما يدين للنزاعات الفكريّة الدينيّة.

ولكن مثلما اختلف شكل الحياة و مضمونها مقارنةً بالماضي، فإنّ محاربة الدين أيضاً قد اختلفت شكلاً. فلقد خلفت الحروب التي نشهدها اليوم، وحيث تتحوّل الأفكار والتصوّرات إلى أيديولوجيا يقارع بعضها البعض بسلاح التعصّب، عالماً يختلف عن الماضي. إذ أدّت مناجزات المعترك الفكري إلى ظهور نوعٍ جديدٍ من علم الكلام واللاهوت Theology يختلف عن اللاهوت القديم موضوعاً وقضايا ومنهجاً وحتى في العديد من الحالات هدفاً وغايةً.

السؤال الأساس هو: هل صحيحٌ ما كان يزعمه روّاد الفكر المناهض أو المجافي للدين من أبناء الحضارة الجديدة في القرن الثامن عشر، وقبل ذلك أو بعده، بشأن زوال عهد الدين؟ وهل أنّ تصنيف اوغست كونت August Comte الشهير، والذي قسّم حياة البشريّة إلى ثلاثة عهودٍ، هي الدينيّ والفلسفيّ والعلميّ، ويعتبر أهمّ سمةٍ للعصر الحديث سمته العلميّة، صحيحٌ ولا غبار عليه؟
بقطع النّظر عن الموضوعات المستجدّة في فلسفة العلم، والتي تعتبر وجهة نظر أوغست كونت وأضرابه حول العلم سطحيّةً، فإنّه بالاضافة إلى الأبحاث الفلسفيّة الموسّعة بشأن هذا التقسيم وآراء فلاسفة الغرب و دحضها و نقدها، هناك عالم الواقع القائم الذي يلهمنا أعظم الدروس والعبر.

لقد كان من المفروض أن يوفّر العلم الحديث حلولاً ناجعةً لكلّ معضلات البشرية دون الاستعانة بالوحي والعقل الميتافيزيقي. كان من المفترض أن يقيم الانسان المنفعيّ النّزعة utilitarian الظاهريّ التوجّه فردوس الأديان الموعود على الأرض. وكان فرضاً كذلك حلّ أكثر عقد الحياة إيلاماً بمقاليد العلم. بالطبع، ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا انّ تطوّراتٍ مذهلةً قد حصلت بفضل الحضارة الجديدة. ولكن، ألا تواجه البشريّة اليوم مشاكل مستعصيةً أكثر بكثيرٍ من معضلات الماضي؟ وهل يمكن مقارنة الحروب في العصر الحديث والدّمار المادّي والمعنوي الناجم عنها بما كان يحصل من صراعاتٍ في العهود السالفة؟ أليس الخوف والقلق الذي يساور الانسان اليوم، وكذلك إنعدام الأمن الذي يتهدّد الحياة في كافّة أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، أكثر دماراً ممّا عانته البشريّة من اضطراباتٍ وانعدامٍ للأمن في غابر الأيّام؟

لايسعنا ولاينبغي أن ننبهر من خلال نظرةٍ سطحيّةٍ بالتطوّرات المذهلة في حقل العلوم التجريبيّة وبالتقنية الهائلة التي ينفرد بها عصرنا، ونغضّ الطّرف عن المحن التي تخلف آثاراً مريرةً و قاسيةً في عالم اليوم المتلاحم.

فالعنف وانعدام الأمن والتّذمّر لم يكن في أي حقبةٍ من التاريخ مكشوفاً ورهيباً مثلما هو عليه الآن.
إسمحوا لي أن أستعرض أحد جوانب الحياة البارزة في العهد الحديث نقلاً عمّن يعتبر الحجة والدليل الوجيه على عقلانيّة الغرب؛ انّه الفيلسوف الألمانيّ الشهير نيتشه.

ففي كتابه «العلم الجذل» (Die Frohliche Wissen- Schaft أوThe Joyous of the Gay Science) يتحدّث نيتشه عن مجنونٍ يحمل سراجاً في وضح النّهار ويعدو في الأسواق صارخاً: «أبحث عن الله». وحين يسخر منه الناس سائلين: «هل غاب الله أو رحل؟» يردّ رافعاً صوته:«تسألون أين صار الله. سأقول لكم. لقد قتلناه... أنا وأنتم. فكيف يمكننا نحن القتلة، أسياد كلّ القتلة، أن نلتمس العزاء لأنفسنا؟ لقد تكالبنا بخناجرنا على من لم يشهد العالم حتى الآن أقدس وأقوى منه. فمن ذا يطهر ذاته؟ وبأي ماءٍ نغتسل؟ فلا حدث بهذه الخطورة إطلاقا.ً»

ورغم انّه يتعذّر الحكم نهائياً على نيتشه، هذا العبقري المتردد الذي لا يقرّ له قرار، فإنّ هذا الجانب من فكره يصور في الحقيقة العالم المتطور الذي استلب من الانسان إيمانه بالله وأضحت اللاألوهية فيه روح الحضارة الجديدة. وربّما كان أبناء الحضارة مؤمنين على المستوى الفرديّ، حيث لا زالت الكنائس والمعابد عامرةً في الغرب، إلا أنّ وهج الايمان بالغيب والتّشرّب بفيض روح القدس قد خفت وخبا في خضم الحضارة الحديثه.

ومهما كان يقصد هذا الفيلسوف، فإنّه أوّلاً لا يمكن التّغاضي عن الحقيقة الكامنة في ذلك التمثيل الذي ينطوي على تعريفٍ بارع بالحضارة الجديده. و ثانياً انّ سبيل العلاج الذي يرتأيه للدّاء، داء غياب الله عن صميم الحضارة الحديثة، هو بدوره سقيمٌ و ينتهي إلى طريقٍ مسدودٍ و مؤسفٍ للغاية.

يقول نيتشه: "يتعيّن على الانسان اليائس المحبط في عالمٍ يخلو من الألوهيّة أن يقيم مجدّداً كلّ القيم ويبدعها ثانيةً. يجب أن يجرؤ ويجازف ويغامر ويحيا مفعماً بعنفوان الحياة. وينبغي أن يزيح كلّ ما يعترض سبيل الحيويّة والنّشاط في الحياة من عقبات. يجب أن يصبح ما هو كائنٌ حقيقةً".

فهو يعتبر الحياة جوهرة الانسان الأهمّ. لكنّ حياةً بمثل هذه القيمة ليست هي الغاية، و إنّما هي وسيلةٌ تتحكّم بها إرادة القّوة:

The Will to Power أو Der wille zur macht
وعلى المرء أن يصبح «جبّاراً» بإيلائه الأهمّيّة للحياة و تعزيزه لإرادة القوّة.

إنّ نيتشه الذي انطلق من صميم الحضارة الجديدة قد سقط في ذات الفخّ الذي وقع فيه أسلافه ممّن لم يبادروا الى تعريف العلم كوسيلةٍ لكشف الحقيقة بل كأداةٍ للقوّة و المقدرة، ولم يستخدموه لتفسير الكون بل لتغييره. وهو بدوره اعتبر إرادة الحقيقة وهماً وتخرّصاً واستخلف إرادة القوّة بدلاً لها وأراد أن يعوض عن غياب الله في النظام الدّنيوي ّبالانسان. فإذا بالجبّار في بلده- ألمانيا- يظهر في صورة هتلر وإذا بإرادة القوّة تتبلور في النّازيّة وتقود العالم إلى الخراب و الدّمار لتنعم بفسحةٍ من «الحياة». والغريب أنّ اليهود تعرّضوا أكثر من غيرهم للإذلال والاضطهاد في ظلّ النظام القومي الاشتراكي في ألمانيا. و حينما سرت إرادة القوّة من هتلر إلى القوى المنتصرة في الحرب العالميّة الثانية، وبدلاً من أن تضع هذه القوى حدّاً للنّازيّة والفاشيّة، حوّلتها من صعيد حياتها القوميّة إلى السّاحة الدوليّة وكرّست عزمها وإرادتها لمأساةٍ كبرى كان على شعوب الشرق الأوسط المضطهدة وفي مقدّمها الشعب الفلسطينيّ العزيز أن تدفع من خلالها ضريبة «اللاساميّة» والعداء لليهود في الغرب. في حين انّنا لم نشهد منذ ظهور الاسلام وحتى يومنا هذا في المجتمعات الاسلاميّة أيّ عداءٍ لأتباع الديانات الأخرى. فلقد خبر اليهود والمسيحيّون والمسلمون في فلسطين وعلى مدى قرونٍ التعايش السلميّ وتحسّسوا المصير المشترك. وإن بادرت بعض الحكومات المستبدّة الفاسدة إلى تضييق الخناق أحياناً على الآخرين وبدافعٍ لا دينيٍّ أو بسبب إيحاء تصوّراتٍ خاطئةٍ من قبل غلاة المتعصبين فإنّ المسلمين براءٌ من العداء للديانات الأخرى. وإذا ما أخلي السّبيل اليوم للشعب الفلسطيني، فإنّه يمكن للمسلمين والمسيحيين واليهود ان يعيشوا أحراراً في فلسطين وجنباً إلى جنب.

ورغم أنّ الحضارة الغربيّة قد أدارت نوعاً ما ظهرها للغيب، إلا أنّ تاريخ العصر الحديث لم ينأى تماماً عن الصّراعات والنّزاعات المتأثرة بالحوافز الدينيّة. فبغضّ النّظر عمّا واجهه المستعمرون ودعاة الهيمنة في المستعمرات و البلدان التي تعرّضت لغزوهم من مقاومةٍ مستمدّةٍ من منهل الايمان الدينيّ للشعوب، فإنّنا لاحظنا في مناطق عدّة وفي فتراتٍ غير بعيدةٍ من عهد الهيمنة الاستعماريّة نزاعاتٍ دمويّةً مدمرةً جابه فيها كلٌّ من طرفي الصّراع الطرف الآخر بدافعٍ ديني.

فلقد عانت الجزائر و طوال سنواتٍ من كابوسٍ دامٍ تناحر فيه الأصوليّون من أدعياء الدين من جهة والجيش والقوى السياسيّة والاقتصاديّة العلمانيّة من جهةٍ أخرى. وبمقياسٍ مصغّر نلاحظ الظاهرة ذاتها في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا ومناطق عديدةٍ أخرى وحتى في تركيا التي جرت العادة على اعتبارها بيئةً آمنةً للتمثّل بالغرب و للعلمنة.

لكنّ هذه الظاهرة لم تقتصر على العالم الاسلامي والدول غيرالغربيّة. ففي الغرب كذلك خلق حقّ المعارضة الدينيّة المتاعب. وهو حقٌّ يرتبط أساساً بتخليص الايمان التقليدي من تجاوزات الديمقراطيّة العلمانيّة.
بناءً على هذا و بعد حوالي قرنٍ من رحيل نيتشه الذي أعلن أنّ الايمان الدينيّ قد ولّى في الغرب، إنبرى المفكّرون و المحلّلون للحديث عن «ثأر» الإله المتمثّل في انتفاضة المؤمنين الذين ذاقوا الذّلّ والهوان وتملّكتهم العصبيّة، في حين انّ الحقيقة شيءٌ آخر.

من هذا البحث المستفيض أريد أن أخلص إلى القول بأنّ ما حصل كان نتيجةً للإعراض عن الله. فحين يغيب الله عن البال والحسبان، يزول الحبّ وتتلاشى العدالة. وللخلاص من هذه المحنة ليس للبشريّة سوى العودة إلى الله وإذكاء نور الايمان في القلوب وفي صميم مجتمعاتها. لكنّ هذا لايعني الدعوة للعودة إلى الماضي وإحياء الأساليب والنّظم اللاإنسانية تحت ستار الدين. فلا يغيبنّ عن بالنا أنّ أحد أهم أسباب إزورار الانسان المتحضّر عن الدين يكمن في الانحرافات والتّجنّيات المفروضة قسراً على البشريّة باسم الدين. فالعلمانيّة الخاصة بتاريخ الغرب هي نتاجٌ طبيعيّ وحصيلةٌ أفرزها التشاؤم وسوء التّصرّف الجامح الذي تمّ باسم الدين في حقبة ما قبل الحداثة.

عندما أتحدّث هنا عن الدين لا يتواءم حديثي إطلاقاً مع أولئك الرّجعيين من ذوي العقليّة المنحرفة ممّن يحصرون الدين في الظّواهر، وهو ما يعود في جانبٍ أساسي منه إلى الانطباعات الخاطئة عن الدين أو العادات الموروثة من الماضي والتي تطبّعت بطابع القدسيّة والخلود. فلا أعني بالدين السلوكيّات القاسية واللاحضاريّة التي تعارض متشدقةً بالدين كلّ ما هو حديثٌ ورائد، وتعتبر القتل والارهاب جهاداً وإطفاء جذوة العقل إيماناً وحرمان المرأة من كافّة حقوقها تقوىً والتّصدّي للعلم والتطوّر زهداً.

إنّ البشريّة بحاجةٍ إلى الدين. ورسالة الدين هي هداية الانسان. فالدين لم يحلّ أبداً بديلاً للعقل البشري في تصريف شوؤن الحياة، بل يؤكّد على أهمّيّة التدبّر والتعقّل وينشد الحريّة والحكمة والعزّة للانسان. والدين الحقّ يوجه الحياة التي ينبغي أن تسري في صميم هذه الطبيعة، لكنّه يعدّ الانسان أعظم من الطبيعة بأسرها والطبيعة رهن تصرّف الانسان. غير ان هذا التصرّف يعني التّناغم مع عالمٍ يسبّح على الدّوام لله، ولا يعني العبث فيه والذي تعاني البشريّة اليوم من مضاعفاته السيئة. والانسان أسمى من الطبيعة، لا من حيث تميّزه بالعقل وحسب، بل بموهبة الحب التي حرم منها حتى الملائكه.
فالايمان الذي أقصده هو ذلك الايمان الذي من شأنه أن يحرر الإنسان من رهبة الإرتماء في خضم الوجود اللامتناهي ويزيل عنه آفة الحزن والهلع الفتّاكة. إنّه الايمان الذي يصل مدينة الله التي دعا إليها القديس أوغسطينس بمدينة العالم الحديث، ليتقاسم أهاليهما سلطة الشعب والمعنويّة والعدالة والنّعيم.
ولكي يتحرّر عصرنا فهو بحاجة إلى الدين، إلى دينٍ يؤمن فضلاً عن الله بالعدالة والحريّة وحقوق الانسان، ويكفر بالفقر و الجهل والحرب والإرهاب وإذلال الانسان.