مداخلات كلمة السيد خاتمي في انطلياس..
المطران جورج صليبا:
لا فُضَّ فوك، الفم العذب الواضح والمعبّر بكل قناعة وامكانية عن الافكار النيّرة التي تحملها فخامتك، سمعتك تتكلم فتصوّر أمامي اثنان: افلاطون من العهد القديم والفارابي من العصور الوسطى. افلاطون دعانا إلى جمهورية مثالية في العالم لكل العالم، والفارابي في مدينته الفاضلة أعطانا الأفكار ذاتها وأضاف إليها. اليوم أقول لو كان كل رجال الدين من كل الاديان المسلمين والمسيحيين وسائر الاديان التي تنتمي إلى السماء او تنتمي إلى البشر يفكرون هذا التفكير لكنّا في ملكوت سماوي مجسد على الأرض، ولو كان كل السياسيين الذين بلغوا ما بلغتم كرئيس جمهورية كبرى هي الجمهورية الاسلامية في ايران يفكرون هذا التفكير ما كنّا في حروب ولا صراع حضارات وثقافات بل كنّا في حوار مستمر. لهذا أنا اوافقكم قبل الآن وأسمعكم. أتمنى أن نقتدي أولاً نحن كرجال دين ان نقتدي بهذه الأفكار النيّرة التي تنقلون وأنا متأكد أنكم ملتزمون بها. وفي نفس الوقت هؤلاء السياسيون الذين أفسدوا العالم ليتهم عادوا إلى هذه الأفكار لا سيّما اصحاب القرار في الشرق والغرب، لو عادوا إلى هذه الأفكار وفكروا أن يطبقوها لكنّا مع الفارابي وأفلاطون، فأنت يا سيدي فخامة الرئيس الخاتمي تختم على كل فضيلة وحسنة ومكربة ألا بارك الله في البلد الذي أنجبك والأفكار التي تحمل. شكراً.
السيد خاتمي: أنا قبل كل شيء أحتاج إلى نصائحكم وتعليماتكم، لأنكم أحسن مني.
الأب يوسف مونس- رئيس قسم الاعلام في مركز كنائس الشرق الأوسط:
في الحقيقة، الذي تفضّلتَ به فخامتك هو كلام انثروبولوجي وفي عمق الانثروبولوجيا. كيف تفجّر العالم الاوروبي وكانت محورية الكون حول الاغريق، انفجر الكون ورجعنا اليوم، وهذا يجب ان يكون احدى الدراسات الكبرى في كل جامعاتنا ما يسمى بالأدب الهندي وخاصة ما يسمى بالأبانيشادا والتي هي منذ 6000 سنة ما قبل المسيح وسواها، لم تعد الثقافة، ليس فقط الأرض، ولا الانسان بمحورية اوروبية بل اصبح بعلاقة بين الأزتيك في المكسيك والمايا في المكسيك، وشعوب الازتيك هي التي كانت شعوب المكسيك الاولى التي كانت حوالي 4000 سنة قبل المسيح وفيها تراث ثقافي مهم، وفيها طقوس دينية مشابهة كلياً للإسلام وللمسيحية، أعطي مرجعاً واحداً أعلى مذبح في العالم، هناك ضحايا بشرية حتى هذا اليوم. أمر آخر أريد قوله، سيدنا، هو ما يلي، مستقبل الدين إذا بقي مرهوناً بالزمن وبالتاريخ، واسمح لي بهذه الكلمة، بالقراءات الدينية البحت؟ الدين شيء خطير يجب أن لا يبقى بين أيدي رجال الدين، يجب كما قال نابليون الحرب شيء خطير لا يقوم بها العسكر. يفعلها العقل والنقد الفكري. ونحن بحاجة اليوم إلى الشيء الذي قلته سيادتك، هذا الما فوق يبقى، وهذا الثابت يبقى، والمتحول في الزمن والمكان والتاريخ واللغة يجب أن يدخل ثقافتنا الدينية. هناك شيء أخير، اذا سمحت لي سيدنا، هذا الآخر والذي قلت عنه فخامتك التطهير الفكري، حكى عنه أفلاطون وسواه، وتعرف سيادتك "باخ" الفيلسوف الالماني الكبير يقول إن الدين ينبع إما من الخوف، أو من اللجوء أو من العلاقة بالعالم الآخر. نحن كعلماء في علم الأنثروبولوجيا نفصل بين الدين والوحي، ونقول: الوحي هابط من السماء إلى الأرض وهو في الاسلام وفي المسيحية وفي اليهودية، والدين صاعد من الأرض إلى السماء.
- الأب ميشال روحانا من الرهبانية الانطونية، معدّ لدكتوراه في فلسفة الجدلية: لا أقول لا فضَّ فوك فخامة الرئيس، إنما لا فضّتْ الروح التي تحدثت فيك وما سمعته منكم هو كلام يصدر عن متصوف مثقف عارف بأحوال الناس. بين مركز ثقافة ومجلس كنائس جلستم وتحدثتم باللغة العربية وهذه ذروة ما يمكن أن يصبو إليه شخص، أن يصغي إلى شخص جمع في نفسه الفلسفة الإيرانية التي كانت قبل الفلسفة الاغريقية ويتحدث بها جامعاً بين الفلسفتين بلغة عربية حملت الفلسفتين إلى الغرب. لا أنتقد الغرب لأنني لا انتقد السواقي، إنما انتقد الينابيع لأن الينابيع كانت من بلاد إيران والاغريق والسريان الذين نمثّل منهم الموارنة هم الذين كان لهم اليد الطولى في الجمع بين الفلسفتين وحملها إلى اللغة العربية. إذاً، أسأل اليوم، ومن خلال العمق التصوفي في نفسه، الذي يتمتع به ليس فقط شخصك، إنما وعلى ما أعرف المذهب الشيعي ككل فهو متصوّف في جوهره بطبيعته. أسأل هل كانت الثورة الاسلامية نتيجة فكر، كالذي تتحدث عنه وهل سلكت في المسلك الذي كان معداً لها؟ وماذا تَعِدْ هذه الثورة التي مازلنا نعيش اليوم في ظلالها ماذا تَعِدُنا في المستقبل القريب بالنسبة لما سمعناه من فيك؟ وشكراً.
موريس نهرا: كاتب وباحث في الفكر السياسي: فخامتكم تحدثتم عن الدين والقيم الدينية بانفصال نسبيّ عن الزمان والمكان. نحن في المرحلة الراهنة كما تفضلتم يعيش العالم كثير من القلق والاضطراب، هناك في وجه محاولة حوار الحضارات بدل الصراع وصدام الحضارات، طرفان يصبان في منحى صدام الحضارات في مفاهيمهم وفي سياساتهم، طرف يتحمل مسؤولية أكبر لكن الرد إذا كان رد فعل أيضاً يصل إلى نفس النتيجة، الطرف هو الغرب، بالأخص قيادات معينة وليس كل غربي، وليس كل اوروبي لأن الموضوع هنا لا ينبع من انتماء ديني في نظري، من نظام اقتصادي سياسي اجتماعي يدفع باتجاه المزيد من الربح والجشع، فإلى السيطرة ونزعة الحروب والعدوان على الشعوب، هذا ما نراه اليوم في العراق مثلاً وفي التهديدات التي نعيشها في منطقتنا بالأخص. الردّ عليه ليس مع احترامنا للجميع ليس بطريقة سلفية يُعبِّرُ عنها بعض من يطرحون أنفسهم ممثلين لتيار ديني سلفي. المسألة ليست بين بوش وبن لادن، فالاثنان يدفعان في اتجاه صدام الحضارات والاديان وليس حوار الحضارات والاديان. ما طرحتُهُ على حضرتك يمكن أن يعطي نوعاً من الجواب ولكن أتأمل في أن يكون في هذا السؤال مادة لإجابة واضحة في هذا المجال. شكراً.
الشيخ شفيق جرادي: السلام عليكم، أود أن أتحدث خارج إطار من صياغات الشكر على ما تفضلتم به وهو كثير في الواقع. أتناول ما كنتم تتمنوه من أن تتم مناقشة بعض النقاط بشيء من البحث في المضمون، في مضمون الفكرة أكثر. سماحتكم تحدثتم عن أن العودة إلى الأصل سواء أكانت المسألة من حيث المسيحية أو الاسلام يكمن فيها كل صفوف المعالجة وان المسيحية الاصل والاسلام الاصل لا خلاف بينهما. وهذا لا اعتقد انه يمكن ان يعارضكم فيه أي معترض ولكن يبقى لدي السؤال التالي. إذا كنا نتحدث عن حوار وعن ضرورات حوار فهذا يعني الاعتراف ضمناً بأن هناك نحواً من الاختلاف القائم بين الديانة الاسلامية والديانة المسيحية وافترض فيما افترضه ايضاً بحضور السياقات الغربية والشرقية ان المشكلة صحيح ليست في المسيحية ما ينمُّ عن ضرورات استعمار ولكن هناك فارق في صياغة الديانة، الصياغة العقائدية لمقتضى ديانة ما. المسألة لا تتعلق بمجرّد النص الأول أو اللحظة الاولى لاندفاق الديانة. هناك مرحلة البيئة والتفكر في الظروف والمعطيات التي تُنِتْج صياغاً عقائدياً محدوداً.
أظن ان المسيحية بهذا المعنى تحمل الكثير من روح الغرب في طرحها بما يمكن ان نطلق عليه نظام قيم حضاري محدد. وبخصوص الاسلام، يحمل نظاماً قيمياً يعكس حضارة الشرق بشكل أو بآخر الذي لعبتم فيه كإيرانيين دوراً أساسياً في هذا السياق. بالتالي إن أي حوار بين الاسلام والمسيحية سيعني فيما يعنيه ضرورات فتح حوار بين ما هو شرق وما هو غرب. من هذا المنطلق لا أدري إذا كنتم توافقون سماحتكم ان لكل اطروحة جديدة، لا بد لها من بيئة خاصة، في مكان خاص، من محل خاص يشكل عنصر المبادرة في إرساء المشروع، في إرساء الفكرة.
- النائب غسان مخيبر: فخامة الرئيس، مساء الخير، أنا من فصيلة السياسيين غير الفاسدين والمفسدين وأؤكد لك أنه توجد من هذه الفصيلة بالرغم من اني أوافق سيادة المطران بأن الغالبية ممن أفسد. أما سؤالي فيعود لعبارة وردت على لسانكم تصفون الدين فيه انه ظاهرة تفوق الزمني وتفوق المكاني. ندّعي نحن فيمن يسعى لحماية حقوق الانسان كركن من أركان الديمقراطية ان هذه الحقوق هي أيضاً ظاهرة تفوق الزمني وتفوق المكاني كونها من الحقوق الطبيعية المتأصلة في الإنسان فيما يتجاوز الانسان والدول والثقافات، إنما يبدو للبعض منّا من يسعى لحماية هذه الحقوق أنها تأتي ببعض من التعارض مع بعض الديانات وبالأخص لمن يسعى لوضع شقاق ما بينها وبين الاسلام إلى حد أن بعض الفقهاء سعوا ويسعون وما زالوا يسعون إلى صياغة إعلان إسلامي لحقوق الإنسان، فهل ترون من حاجة لصياغة مثل هذا الاعلان؟ وهل تعتبرون فيما يتجاوز ما أعلنته منظمات عديدة ان حقوق الإنسان عالمية، حقوقها، وحرياتها لا تنفصل عن بعضها البعض ولا ترتقي إلى أي أنفصام او خلاف أو نزاع مع الاسلام وليس هي مصدرها أي دين من الديانات. هل ترون من حاجة إلى اعلان اسلامي لحقوق الإنسان؟ وهل هناك في الاعلان العالمي ما لا يتفق مع الشريعة الاسلامية إلى حد تدعون حتى في هذه الحقوق لحوار على موضوع حقوق الإنسان بين من يدعو به، لن أقول – كديانة أخرى ظاهرة تفوق الزمني وتفوق المكاني. شكراً.
- النائب حسن يعقوب: طبعاً، فخامة الرئيس أنا لست ممن يدعون انني من مجموعة السياسيين الفاسدين. ولكن أدعو الله أن يلهمنا حُسن العاقبة. طبعاً إذ أشاهد اليوم حضور فخامتكم بيننا وحضور هذا الجمع الكريم فإنه لا بد لنا ان نرى خطاً بيانياً نورانياً يجمع بين حضور فخامة الرئيس السيد محمد خاتمي في الحركة الثقافية في انطلياس مع وقوف الإمام موسى الصدر في كنيسة الكبوشية. وإننا اذ نقرأ بين هاتين الوقفتين سجالاً وأطروحات لكُثر اليوم كهنتنغتون وغيره، يسوّقون أفكاراً هي رد عكس لهذا الخط النوراني الذي تقولون به، وإنني باختصار أسألكم هل ان حضوركم اليوم في هذا البلد الصغير كما أسماه الإمام الصدر الوطن الصغير، هل أن حضوركم بما يمثل لبنان من طائر الفينيق الذي ينتفض في كل مرة بعد أن يُستهدف هو استحضار منكم ومن الجميع لكي نكون جميعاً حاضرين لتكريس لبنان الرسالة والدور الذي أُطلِقَتْ منه معركة استباقية قبل ربع قرن لما يسمى بصدام الحضارات اليوم وما تستملكون وتقولون من حوار الحضارات أنتم اليوم؟ وشكراً.
- سؤال: في مواجهة وجود القوى الدولية الكبرى الساعية لفرض مناطق النفوذ، السؤال كيف يمكن أن يتكيف الاسلام والمسلمين مع قيم الحداثة وجوهرها الحرية والمساواة أو العلمانية غير المؤمنة من خلال اعادة قراءة النص الديني على ضوء العصر وخوض ثورة ثقافية في الفكر الديني تدخلنا في قيم حقوق الإنسان؟ ألا ترون انه على مثل هذه القاعدة يكون الحوار الحقيقي بين الأديان المسيحية والاسلام وكل الاديان وكل البشر، هو الذي يستجيب للتقدم والمستقبل؟ وشكراً فخامة الرئيس.
- د. ياسين سويد عميد متقاعد: كان لي الشرف أن نُقِلَ احد كتبي إلى لغتكم الكريمة "الفن العسكري الاسلامي". سيدي، فخامة الرئيس، سؤالي يختلف كثيراً عن هذه الاسئلة، نحن نعيش اسلاماً جبرياً منذ 15 قرناً، وفي أوائل الاسلام أتى 5 فقهاء وبعدها لم نجد فقيهاً وأحداً يطبق الشريعة الاسلامية الحقيقية. تتغير الأحكام بتغيَّر الأزمان، لماذا تجمّد المسلمون عند الفقهاء الخمسة ولم يأتِ فقيه بعد يطبق هذه القاعدة ويخلق من الاسلام إسلاماً عصرياً حديثاً لا زرقاوي ولا بن لادن؟ وشكراً.
- راهبة: كلمة شكر لفخامة الرئيس الذي هو نموذج للحوار المسيحي الإسلامي وشكراً للحركة الثقافية التي جعلتنا نراه بنظرنا. أنا راهبة احاول أن أحدّ من الفساد من خلال تربيتنا للأولاد والطفولة. ولكني أشعر أني كلما تقدمت بهذا العمر أشعر – خاصة في الشرق – سواء المسيحيين أو المسلمين – أنهم يركبون موجة التعصب. ولكني شعرت في اختيارك ان هناك اختمار للتجذر الانجيلي والقرآني، ومن ثمّ هذا الانفتاح الذي نطلبه. أنا أشكرك، الأمر الثاني والأهم يا ليتنا نسوق تعليماً دينياً يلخص هذا الاختبار كي نقدر في مدارسنا المنتشرة في كل ربوع لبنان أن نحمل لواء الوحدة ولواء الحوار المسيحي الإسلامي. شكراً.
السيد خاتمي:
بالنسبة للسؤال الكريم الذي تحدث عن مسألة العرفان في عصرنا الحاضر وعن مدى تأثر الثورة الإسلامية التي قامت في ايران بأسس العرفان أود أن أورد إجابة مختصرة.
وأريد أن اقول إن العرفان لا يقتصر على الشيعة فقط.
إذ لدينا العديد من النظريات العرفانية لدى نفر مهم من علماء أهل السُّنة.
وربما نستطيع القول ان أهم عارف من الناحية النظرية والتنظيرية في التاريخ الاسلامي هو محيي الدين بن عربي والذي لا ينتمي إلى الطائفة الشيعية.
وايضاً لدينا كبار ينتمون إلى الديانة المسيحية. والحقيقة أن روح الاديان الإلهية تنتمي إلى العرفان. والظواهر ينبغي أن تسوقنا إلى ذلك العمق. وللأسف الشديد انه مع مرور الزمان تبدلت الظواهر وتم نسيان العقل.
الإمام الخميني كان من العرفاء الكبار ومن الفلاسفة الكبار في التاريخ الاسلامي.
ولا شك في أن نظرية الإمام الخميني العرفانية كانت مؤثرة في وضع أسس الثورة الاسلامية التي قامت في ايران. ولكنني أعتقد أن الثورة الاسلامية التي انتصرت في ايران أتت كأوج لمرحلة تكاملية انطلقت منذ 150 سنة في ايران هي إرادة تاريخية لدى الشعب الايراني تجلت على امتداد 150 سنة. إذ ان الشعب الايراني بقي ينادي خلال 150 سنة بقيم الحرية والاستقلال والتطور وقد عانى هذا الشعب طويلاً من الحكومات الاستبدادية والقمعية. وقد عانى أيضاً كثيراً من الارتهان الاجنبي.
وهذا الشعب الذي كانت له مساهمات مهمة وأساسية في بناء الحضارات الانسانية في المرحلة التى سبقت بروز الدين الاسلامي. ومن المعروف ان الشعب الايراني هو أول شعب في شرق الكرة الأرضية وضع دستوراً للحكومة الديمقراطية. وهذا الدستور ترافق مع ظهور الثورة الدستورية.
وأدى هذا الأمر إلى السير نحو قيام حكومة ديمقراطية وقد حاول الشعب الايراني منذ أكثر من 150 سنة أن يتزوّد ويتسلح بالعلوم الحديثة، وأن ينقل هذه العلوم العصرية إلى وطنه الأم وجاهد وناضل هذا الشعب طوال قرن من الزمن ضد الاستعمار الاجنبي.
وبالتالي فإن المطلب الاساسي للشعب الايراني على امتداد قرن من الزمن كان الحرية والاستقلال والتطور.
إن ما ظهر بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران كان تطابقاً وانسجاماً واندماجاً بين الارادة التاريخية للشعب الايراني مع الدين الذي يعتمد عليه.
اي ان الشعب تفرّد، انه من خلال توسّل الدين نادى بالحرية والاستقلال والتنمية والتطور.
وطالما ان هذين العاملين اي الارادة التاريخية والهوية التاريخية للشعب الايراني بقيا منسجمين ومتكاملين فإن هذا الشعب سوف يستمر في طريقه.
ان التجربة التاريخية دَلَّتْ اذا فهمنا الدين على أنه مسلك مخالف للديمقراطية والحرية والتطور عندها نسير في الاتجاه المعاكس للإرادة التاريخية للشعوب. وبالتالي فإن الناس سوف تنفر من هذا الدين. وبالمقابل فإننا إذا أردنا أن نعرض قيماً كالحرية والاستقلال أمام أذهان الناس بعيداً عن الدين فإن الناس سوف ينفرون أيضاً ويبتعدون عن هذا المفهوم.
التيار الذي أُطلق عليه في ايران تيار الإصلاحات كان إصلاحاً يتركز في طريق الثورة.
وكان منسجماً ومنسقاً مع الارادة التاريخية والهوية التاريخية للشعب الإيراني ومن هنا أريد أن أنتقل إلى السؤال الآخر الذي سُئِلَ إن كان الدين ينسجم أو يتناقض مع الديمقراطية ومع حقوق الانسان. لأنني كما تعرفون قد طرحتُ مفهوم الديمقراطية الدينية وبالتالي ينبغي أن نرد على مثل هذه التساؤلات. من هنا، على هذا المنبر، كما تذكرون قلت إن الدين سواء الدين الاسلامي أو الدين المسيحي هو فوق الزمان والمكان.
الدين يتعاطى مع الشؤون المقدسة، مع الشؤون الازلية والخالدة، إذا سلبنا عن الدين انه شيء مطلق وانه شيء مقدس، بالتالي نكون قد سلبنا صفة الدين عنه. الدين لا يرتبط بالتاريخ، أما الانسان فهو الذي يرتبط بعنصر الزمان والتاريخ، الانسان الذي يخضع للظروف الخاصة التي نعيش في كنفها وكما ينظر إلى مقتضيات الزمان والمكان وينظر إلى الدين.
وفي ظل الظروف الزمانية والمكانية من الممكن ان تتولد في ذهن الانسان رؤى مختلفة مغايرة تجاه الطبيعة وحتى تجاه الدين. ومن أحد أكبر المصائب التي عانت منها البشرية على مرّ التاريخ أن أرباب بعض الأديان أطلقوا تلك التصورات الذهنية الموجودة لديهم في ظروف زمانية ومكانية معينة وأسقطوها على الدين عينه الذي هو فوق الزمان وفوق المكان.
وبالتالي أسقطوا حالة القداسة على ما هو غير مقدس. وبالتالي فإن كل شخص بادر إلى معارضة هذا التوجه وإلى معارضة قدسية هذا المفهوم أتّهم بأنه يخرج عن الدين.
إذا أردنا أن ندافع عن الدين ينبغي أن تتكون رؤية عصرية ومتناسبة مع مقتضيات الزمان عن الدين في أذهاننا. الدين لا يتبدل، أما انطباعاتنا عن الدين فهي حتماً ستتغير. وفي عالمنا المعاصر الذي يرى فيه ان الصوت الاعلى هو الصوت الذي يطلق صيحة الحرية والديمقراطية، الخطاب الاساسي في عالمنا المعاصر هو الخطاب الذي ينادي بالحرية وبالديمقراطية، إذا لم يتمكن دين من الأديان أن يتماهى وينسجم مع قيم ونبيّن الحرية والديمقراطية فإن هذا الدين يصبح في معرض الخطر.
وبالتالي فنحن المسلمون وأنتم المسيحيون في هذا الزمان ينبغي ان نُعلن ما هو موقفنا بشكل جذري واساسي تجاه الحرية وتجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان. الدين لم يتغير، أما رؤيتنا الدينية فبإمكانها أن تتغير ويجب أن تتغير. في زيارتي الاخيرة التي قمت بها إلى الغرب رأيت ان هناك العديد من اللوحات والتحاليل التي تتحدث عن إسلامين، اسلام معاصر واسلام تقليدي، فقلت في معرض الاجابة عن مثل هذه الاشكالية بمجرد أنكم تتحدثون عن إسلامين أحدهما معاصر والآخر تقليدي، هذا يعني أنكم جعلتم دين الاسلام في معرض مقتضيات الزمان أي أنكم جعلتم ما فوق التاريخ وما فوق الزمان، أمراً تاريخياً وزمانياً.
ولكن بالمقابل نحن يمكننا وينبغي علينا أن نمتلك انطباعات عصرية وأخرى تقليدية عن الدين سواء كان هذا الدين إسلامياً أو مسيحياً. كيف يمكن للإنسان عندما ينظر إلى هذا الكون من خلال تغيير زاوية نظره ووجهة نظره تتغير رؤيته للكون (وهنا تحدثتُ عن النظرة القديمة والجديدة عن الكون) لماذا عندما نعود إلى مصدر الشرع أو التشريع وهو الدين نستعمل نظارة تعود عدستها إلى العصور الساحقة؟
لماذا لا ينبغي لنا أن نستعمل نظارة حديثة وبالتالي نصل إلى نظرة حديثة وانطباع حديث عن الدين، في الوقت الذي يصبح لنا أن نكوّن فكرة حديثة ومعاصرة إلى مختلف العلوم والفنون العصرية.
وأما بالنسبة للصديق الذي طرح تساؤلاً انه لماذا لا ينبغي أن نعتبر مسألة مثل حقوق الانسان ايضاً مسألة ما فوق الزمان وما فوق المكان. الانسان هو أمر تاريخي وبالتالي إذا أردنا أن نعتمد على أي تعريف للإنسان يمكن أن تتكوّن لدينا رؤى عديدة لحقوق هذا الإنسان.
وينبغي القول ان حقوق الإنسان في هذا المفهوم هو أمر طرح في المدنية الحديثة. وعندما تأصّل الانسان، بالتالي تم لفت الانظار إلى حقوقه المشروعة.
الانطباعات الدينية تبدأ عصر الحداثة. وايضاً الانظمة السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة قبل عصر الحداثة. كانت هذه النظرة وهذه الانظمة تركز أكثر ما تركز على واجبات الانسان ولا تركز بالدرجة ذاتها على حقوقه وبمجرد القول إن الانسان هو كائن لديه حقوق تبدلت نظرتنا إلى الحكومات. وقلنا بالتالي إن الحكومات ليست تلك المسألة التي ينبغي أن تُسْقَطَ على الناس من فوق.
ولأن الانسان هو كائن صاحب حقوق وامتيازات فبالتالي فإن أي حكومة لن تستمد شرعيتها إلا إذا استندت إلى الارادة الشعبية الحرة ومن هنا أعيد مرة أخرى ان الخطاب السائد والغالب في مختلف أنحاء العالم اليوم هو أنه ليس من حكومة أو دولة تستطيع أن تستمد شرعيتها ووجودها إلا من خلال الاستناد إلى الإرادة الشعبية وإلى الرأي العام وقد بلغت قوة هذا الخطاب وحضوره إلى الحد الذي بادرت فيه حتى الحكومات الاستبدادية والقمعية باتت تنسب إلى نفسها أنها تقوّم سياساتها استناداً إلى ارادة الشعب.
وبالتالي فإن مسألة حقوق الإنسان قد وضعت في هذا الإطار في عالمنا المعاصر وإننا نعتقد أنه من الخطأ الجسيم أن نعتبر أن مسألة حقوق الإنسان التي تشكلت وتبلورت في ظروف اجتماعية وتاريخية معينة بحد ذاتها ونحاول أن نسقط هذا الامر ونجعله انسانياً يسري في كل الازمنة والأمكنة، نعتبر أن هذا الأمر خطأ في حدّ ذاته.
أودّ أن أعرض مثالاً آخر. العلمانية هي مسألة فكرية تاريخية بدأت في العالم الغربي وأنتم تعرفون أن الامور الانسانية والامور الطبيعية فيها اختلاف بيّن. الامور الانسانية هي تتعلق بشدة بالظروف وبالمكان وبالزمان، بالمقابل فإن الامور الطبيعية لا تخضع لمقتضيات الزمان والمكان، ومن هنا فإن قواعد علوم الفيزياء على سبيل المثال لا تخضع لعناصر الزمان والمكان أما العلوم الانسانية فهي متعلقة أو ترتبط بشدة بمسألتي الزمان والمكان. وفي هذا الصدد نستطيع القول إن في عالمنا المعاصر، مقابل العقل المحض أو الصرف الذي طرحه "كانط" Kant بادر ريلكه إلى طرح مقولة العقل التاريخي. العلمانية هي ظاهرة برزت في العالم الغربي. وأيضاً نعتبر انه إذا بادرنا إلى تعميم مفهوم العلمانية التي هي ظاهرة غربية على مختلف أصقاع العالم من دون أن يعرف إذا كانت هذه الظاهرة تلزم هذا البلد أو ذاك يعتبر خطأً جسيماً. والعلمانية تعني فيما تعني انفصال الدين عن ساحة الأمور أو الحياة الاجتماعية المتعلقة بالانسان.
ومن أجل أن نتخلص من الجرائم التي ارتكِبت زوراً باسم الدين من الممكن أن يبادر البعض إلى طرح مقولة مفادها انه يمكننا أن نعمم فكرة العلمانية على المجتمعات غير الغربية، إذا فهمنا الدين على انه مع الحرية ومع حقوق الانسان وينادي بالديمقراطية، إذا قلنا إن الدين لا ينسجم مع الحرية ومع الديمقراطية ومع حقوق الانسان لا يلزم لشخص أو مفكر أن يطرح مقولة تعميم تجربة العلمانية في الدول غير الغربية، لأن العلمانية سوف تشق طريقها بشكل كبير.
وإنا نحن في شرق الكرة الارضية والدول التي لديها تاريخ من الحضارة الدينية فلدينا طريق آخر بإمكاننا أن نسير فيه. وهو ان نبادر إلى ايجاد مفهوم ورؤية للدين تنسجم مع قيم الحرية وحقوق الانسان وحقوق المرأة والديمقراطية. إذا استطعنا أن نصل إلى هذه الرؤية الدينية فما الحاجة إذن إلى العلمانية؟
ألم تلحق العديد من المصائب والاضرار في العالم الغربي فيمن سلك نفسه في مسألة الدين؟
اذا بادرنا إلى معاصرة رؤيتنا للدين، ألا نصل إلى مرحلة نجد فيها حلاوة أكثر لمفهوم الحرية والديمقراطية. حلاوة أكثر لهذه المفاهيم مما هي مطروحة في العالم الغربي.
من المسلم به أن المجتمعات غير الغربية يجب أن تلتحق بالمعاصرة. ولكن هناك أنانية غربية واضحة عندما تقول إنه ينبغي لكل المجتمعات البشرية غير الغربية أن تلتحق بركب الحضارة الغربية.
نحن ينبغي استناداً إلى تاريخنا وإلى ثقافتنا أن نجدد حياتنا إذا كان مفهوم حقوق الإنسان بشكل أساسي هو أن يكون الناس مقررين لمستقبلهم ومصيرهم وهناك حرية التفكير المتاحة له وهناك حرية لبنان وشعبه لمختلف أديانهم وطوائفهم كنموذج.
لديهم الحق في اختيار معتقداتهم وافكارهم وأنا اعتقد أنه إذا أراد دين من الاديان أن يجد موطئ قدم له في هذه الدنيا، في عالمنا المعاصر فلا بد أن ياخذ هذه القيم في عين الاعتبار. وأما كإنسان شرقي وكمجتمع شرقي ربما أنا أحمل المزايا الاخلاقية التي تنسجم مع الحرية والعدالة والديمقراطية لا يراها ذلك المنتمي إلى الحضارة الغربية انها تنسجم مع افكاره وتوجهاته.
اعتقد انني في سياق الاجابة على هذا السؤال قد أجبت على بعض الاسئلة اللاحقة.
وهذا السؤال طرح ان الاختلافات السائدة اليوم في العالم ليست اختلافات دينية بين المسيحية والاسلام وإنما هي اختلافات تستند إلى أسس اقتصادية وسياسية. وفي الحقيقة هذا بحث مستفيض ولا أعتقد بالفعل ان الاختلافات الموجودة حالياً حكماً هي ذات جذور اقتصادية وسياسية.
ينبغي أن نعترف أن هناك سوء تفاهم حقيقي بين الديانات السماوية وبين الحضارات الانسانية. الاختلاف ليس فقط بين جورج بوش وبن لادن. بل هناك تلاون بين طريقة التفكير السائدة لدى أرباب الفكر في الغرب وبين أرباب الفكر في الشرق. من هنا نحن نؤكد على ضرورة حوار الحضارات، ولكن عندما نخوض في حوار الحضارات فينبغي لنا أن نأخذ بعض الاعتبارات:
- أولاً لغة الحوار. لغة الحوار ينبغي أن لا تكون لغة ثيولوجية طبعاً ولكن الاسس الثيولوجية قيّمة للغاية. وإن دروب الفلسفة والعلم والحضارات استفادت كثيراً من هذه اللغة ولكن لغة الحوار ليس لغة الثيولوجيا. لأن الثيولوجيا قد أُسِسَتْ للدفاع عن العقائد. وفي عالم الحوار وعالم الخطاب لا يذهب الصديق عند صديقه وهو يمتشق السلاح.
- وثاني هذه الاعتبارات ان لغة الحوار ولغة التخاطب لا ينبغي أن تكون سياسية ودبلوماسية لأن المفاوضات السياسية واللغة الدبلوماسية كما تعرفون تُتبع في عالم السياسة وعالم الدول من أجل ان تحصل كل دولة على المزيد من المكتسبات والمزايا السياسية.
- وايضاً فإن لغة الحوار لا ينبغي ان تكون لغة تجارية. وان المفاوضات التجارية التي تجري بين طرفين، الهدف الاساسي منها هو اكتساب المزيد من الثروة والمزيد من المال .....
إذا أردنا للحوار بين الحضارات أن ينجح وأن يتقدم فيجب أن تكون اللغة المعتمدة في هذا الحوار هي لغة التعارف والتواصل.
نحن في حالة الحوار لا نقف في مقابل بعضنا البعض بل يصبح كلُّ منا مرآة للآخر.