الحرية كمال الإنسانية
رئيس الجلسة: الدكتور الأب يوسف مونّس
إنه لشرف كبير لي أن أكون بينكم في المؤتمر التاسع «كلمة سواء» تحت عنوان «موقع الحرية في الإصلاح والتجديد» والذي تنظمه مؤسسة الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
يظللنا اليوم الإمام العظيم شاقاً لنا دروباً للحرية الروحية والإنسانية والوطنية والفقهية والاقتصادية نستوحي منها لنبني معاً وطن المعيّة وحضارة المحبة والمصالحة.
السؤال هو الحرية، الحرية والإنسان لا ينفصمان. لا أكون إنساناً إلا في الحرية. الحرية هي كمال إنسانيتي. تحدّد أو لا تحدّد وان ألبست الخواء ضاع مفهومها الحقيقي.
عندما تموت الحرية يموت الإنسان، العيش أو البقاء ليسا هما هو ببديل عن الحرية.
إنها في الكينونة تتمظهر في الأبعاد السياسية والإنسانية والفنية والاقتصادية والثقافية والدينية وسواها. الحرية هي الأساس أي أنها الصوت الحقيقي لأجل كينونة الإنسان بكرامة وجوده وليس بلحمية صورته اللحمية. لست أنا كائنًا ناطقًا فقط. لست أنا ذئباً للآخر كما يقول "موسى" ولا أنوجد في انعدام الآخر كما يقول "سارتر"، ولا كينونة لي في تشييء الآخر، بل أنا والآخر كينونة وانوجاد في الحرية والكرامة والاحترام. الفناء هو البقاء دون حرية "وحدهم الأحرار" كما قال شارل مالك "يحاربون في سبيل الحرية ويجدون في العالم أنصاراً لهم"، ومن هؤلاء كان الإمام السيد موسى الصدر، الذي ما برح يردد لبنان الكبير بالحرية، وصغير بدونها في فرح العيش المشترك، أمانة لشهادتنا أننا للّه وأننّا للإنسان.
لي الحق بالافتراق وللآخر الحق بالاختلاف، نحن لا نكون إلاّ إذا كنّا سوى، أيّ معا، في كلمة سوا، هذا هو فعل حريّتنا الأوّل ووجودنا الأوّل. نحن سوا. نحن نحلم بإنسانية مملوءة إنسانية، لأن رصيد الإنسان إنسانه ورصيد لبنان إنسانه ونحن سوا اجتمعنا اليوم من اجل الانسان.
لكي تبقى فينا إنسانيتنا وحقنا بوجهنا البشري المرتكز الوحيد هو حريتنا وكرامتنا الانسانية. قرار وجودنا أو عدمه هو قرار حريتنا. وحدهم الأحرار هم الموجودون. العبيد المكدونون تحت نير أية سيطرة على القلب والعقل هم في العيش وليس في الكينونة لأن الحرية هي الأساس بها نتأنسن وبها نكون بشراً وهي فعل التجديد الدائم وجرح الانوجاد في مغامرة الكيان Risque d’être لتضاء على دروب الناس قناديل الفرح فيدفأون على نار عشق آخر، هو الخروج من كهف الجسد ورغباته ومصالحه، بالتطهير الكياني كما يقول أفلاطون، فيتعالون ويتراقون على ضغوط الخارج وضرورات الداخل كما هو موضوع الندوة ليقفوا في العري الأساسي للكائن البشري الذي لا معنى له إلاّ في الحرية والباقي قشور وأقنعة. لا يجب أن نضيع بين الثابت والدائم والجوهري وبين المتحوّل والمتغيّر والعرضي. الحريّة جوهر التفاعل معها يكون في الزمان والمكان والإنسان. البقاء أفضل منه الفناء بدون حرية لذلك يمكننا نحن العرب ان نقول احياناً ايها العار المجد لك لأننا خلطنا بين البقاء والحرية. لأنه مع الحرية تقرع لنا أجراس الفرح حتى صليب الآلام والاستشهاد. الحياة تولد من رحم آلام الحرية حرية الفكر وحرية القول وحرية العمل، الحرية الاجتماعية، الحرية السياسية والحرية الدينية. الحق الأول والدلالة الأولى على رقي الأمم هو تمتع أفرادها بهذه الحقوق الطبيعية المعدة لهم من الله وليس من كرم الحكام.
في هذا العري الصادق الحر للعقل والقلب وقف السيد الإمام موسى الصدر، على حدود الجرأة الروحية المسكونة بأصوات الأولياء والأنبياء والقديسين ليكون في لبنان طبق العيش المشترك الذي نتقاسم خبزه الحضاري والروحي والإنساني ونقدمه قرباناً مثالاً للإنسانية. نحن اليوم نضيء سراج قلوبنا وعقولنا من روحه لتبقى دروب المستقبل منورة لنا. القضية اللبنانية هي قضية الحرية في هذا الشرق. فلا كيان سياسي للبنان إلا على بناء الحرية في جوهر الوجود اللبناني.
وهنا يتلاقى قداسة البابا والإمام السيد الغائب على أن لبنان هو رسالة، هذه قالها الإمام منذ عشرات السنين ورددها الإرشاد الرسولي مؤخراً، القمم تتلاقى ولكن من خلال وديانها.
في الفكر المسيحي عندما أخذت مركبة النار النبي ايليا ورفعته إلى السماء كان ذلك في جبل الكرمل حيث ارتقى ايليا الى السماء وغاب لكن قبل غيابه صرخ تلميذه اليشاع وقال له الى أين تذهب يا معلمي وتتركني وحيداً. أترك لي شيئاً منك يعزيني ويعطيني من روحك وقوتك. فالقى اليه ايليا وهو في عاصفة النار وشاحه.
وهكذا نحن اليوم في ظلّ عمامة وعباءة الامام السيد نقول له ارمِ لنا بوشاحك ليضىء لنا الوطن حرية وكرامة وقلوبنا رحمة وسلاماً ومجتمعنا حضارة وتعايشاً سلامياً، ليبقى لبنان أكثر من تراب، رسالة محبة، وحوار حضارات لكرامة انسان معمّد بالحرية والكرامة والحبّ.
يبهرني في هذا السيد المديد القامة كالأرز، المعمم كجبال لبنان، الآتي من قمّ حاملاً التراث الكربلائي النجفي والتراث الفارسي القمّي هو انه كان طفلاً كبيراً حالماً، نبياً كثير البراءة، كان الإمام صدّق أنه بإمكانه أن يغير الظلم ويقهر الفقر والبغض. والحق، كان كملاك يسكب جامات غضب الله كما في سفر لوقيا ويقف بعمامته وأنا كنت شاهداً لذلك أمام صليب يسوع في كنيسة الآباء الكبوشيين ليقول إن الله محبة ولا خلاص لنا إلا بالحب والمعية والعيش المشترك.
أنتم يا أحبائي المؤتمنون على تراث السيد الإمام آمل أن تحملوا فاجعتكم بحبور وفرح وأن لا يبقى الغياب حالة حزن وأسى ونحن على أبواب الميلاد. احملوا لنا الفرح الذي كان يفيض من حضوره الدائم. أبعدوا عنا هذه الكآبة التي تحملها هذه الأيام من الفقر والمرض والذل والقهر والثرثرة السياسية كما يقول هيغل. الله محبة في كينونة الخلق والإيمان فرح في القلب وكشف في سر الله. وأنا الذي ولدت في هذا الـ"لبنان" الذي بدأ يغيب أنا المولود على الجرح الشيعي الكبير والعدل السني الكبير والمحبة المسيحية والعقل الدرزي والقلق البروتستاني والمذبحة الأرمنية والمجد الأرثوذكسي والأيقونات الملكية، أنا ابن هذه العمامة وابن هذا الصليب ابن هذه الوديعة.
شكري لمؤسسة الامام الصدر، التي تدعونا إلى كلمة سوا لنبقى في حقّ اللـه وحق الوطن. شكري للمحاضرين الكرام الذين بعلمهم وبحثهم سيغنون تفكيرنا حول موضوع الحرية بين ضغوط الخارج وضرورات الداخل واسمحوا لي في البدء كانت الحرية وفي النهاية تكون الحرية.
صديقي الأستاذ زكي الميلاد رئيس تحرير مجلة الكلمة في المملكة العربية السعودية، هو كاتب وباحث في مجال الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة، رئيس تحرير مجلة الفكر وهي مجلة فكرية فصلية تعنى بشؤون الفكر الإسلامي وقضايا العالم المعاصر والتجديد الحضاري المؤلفات المنشورة عددها 15 كتاباً إلى جانب العديد من المشاركات في كتب مشتركة، نشر العديد من المقالات والدراسات في الصحف والمجلات والدوريات باللغات العربية والانكليزية والفرنسية. شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات الفكرية والإسلامية. موضوعه اليوم: مشاريع الإصلاح: الفرص والمتطلبات. نصغي إليك بكل محبة واحترام.