الغرب في منظور المسلمين- الدكتور عبد الغني عماد

الرئيسية إصدارات كلمة سواء مؤتمر "كلمة سواء" التاسع: موقع الحرية في الاصلاح والتجديد

الجلسة الثانية

الدكتور عبد الغني عماد

المحاور المطروحة
- في بدايات تكون الصورة المعرفية
- صدمة اكتشاف الآخر المتقدم
- سلطة النموذج واشكالية المرجع
- الخروج من الثنائيات.

أبدأ بالقول ليس من السهل بل ربما يكون من الخطأ فصل المقاربة الإسلامية للغرب عن المقاربة الغربية للإسلام والمسلمين فكلاهما بتقديري ليسا مظهراً من رواسب ذلك الصراع والتنافس الذي نشأ بينهما ومع ذلك سنركز في مداخلتنا على المقاربة الإسلامية للغرب علماً أن العنوان منذ البداية يطرح إشكالية.

تعرضت المقاربة الغربية للإسلام الى العديد من النقاشات ، ونالت في الآونة الاخيرة قسطاً وافراً من البحث والتدقيق ومن النقد والتفكيك. وتشكّل بعض الكتابات علامات فارقة في هذا المجال ومنها كتابات مكسيم رودنسون في "جاذبية الاسلام" وادوارد سعيد في "الاستشراق" ومحمد أركون في "أوروبا، الاسلام، الغرب: رهانات المعنى وارادة الهيمنة" ومحمد عابد الجابري في "مسألة الهوية: العروبة والإسلام... والغرب" وهشام جعيط في "أوروبا والاسلام، صدام الثقافة والحضارة" ثم جورج قرم في "شرق وغرب: الشرخ الأسطوري". وهي دراسات بالاضافة الى غيرها شكّلت مرجعاً هاماً كشف الأبعاد السياسية والايديولوجية التي تأسست عليها صورة الآخر، وخاصة المسلم، في العقل السياسي الأوروبي والغربي عموماً، وقدّمت قراءات نقدية، ذات دلالة في هذا المجال وإن كان النقاش لا يزال مفتوحاً، وسيبقى كذلك الى فترات طويلة.

في المقابل فإن المقاربة الإسلامية للغرب لم تحظَ سوى بالقليل من اهتمام الباحثين، على الرغم من اعتقادي انه من التبسيط والوهم الفصل الاعتباطي بين المقاربتين، ذلك أنه على افتراض امكانية الحديث عن مقاربة إسلامية للغرب، فأي غرب هو المقصود بهذه المقاربة؟ ثم هل يجوز الحديث عن مقاربة إسلامية واحدة موحدة أم أن الأمر ينطوي على مقاربات وخطابات إسلامية متعددة؟ ثم هل هذه الخطابات والمقاربات الاسلامية، إسلامية خالصة ونقية ومطهّرة من رواسب وآثار التشكل التاريخي للصراع بين المسلمين والغرب من جهة، ومن سلطة المعرفة التي شكلها الخطاب الاستشراقي من جهة أخرى؟

ومؤدى هذا كله ان الغرب ما عاد موحداً، وما بقي المسلمون كتلة واحدة، وانقسمت الخطابات ومع ذلك يبقى في "اللاوعي" ان الغرب غرب والشرق شرق. وسنكون مخطئين، كما يقول محمد عابد الجابري، اذا نحن اعتقدنا ان الغرب قد تحرر من تلك الخلفيات الثقافية الاستعمارية، والعنصرية التي كانت توجه فلاسفة التاريخ والمستشرقين وانه الآن غرب علماني خالص، عقلاني براغماتي لا غير، سنكون مخطئين اذا نحن جردنا الغرب من ذاكرته الثقافية الدينية، ذلك لأنه اذا كانت هذه الذاكرة تفعل بصورة واعية في الكنسيين والمتطرفين العنصريين في كل من أوروبا وأميركا، فهي تفعل كذلك بصورة لا واعية في العلمانيين والليبراليين(1)، وهي تميط اللثام عن نفسها بين حين وآخر من خلال ردود فعل معينة ، غير مراقبة، كما يحصل في المشهد الدولي الراهن.

ومع ذلك سوف نركز في هذه المقاربة على تطور النظرة المعرفية للمسلمين تجاه أوروبا، دون ان يعني ذلك ان هذه النظرة، وبالتالي الصورة المتكونة بناء عليها، قد تم انشاؤها بشكل مستقل بعيداً عن مؤثرات أو تداعيات ذلك الصراع الذي اندلع بين الطرفين، أو بعيداً عن متطلبات ومحددات المجتمعات الاسلامية وضرورات الاصلاح والتجديد التي اخذت تفرض نفسها شيئاً فشيئاً.

صحيح ان الفقهاء المسلمين قسّموا العالم الى دارين، دار الاسلام ودار الحرب، وهو ما ذكرنا به اسامة بن لادن، حين تحدث عن انقسام العالم الى فسطاطين، إلا أن المسلمين في الواقع التاريخي ما خاضوا صراعاً أو حروباً ضد الأديان الأخرى، بل تصرفوا عملياً كقوة عسكرية وسياسية ناشئة ضد قوى أخرى سائدة ومهيمنة(2)، وهم فضلوا مسيحية الأحباش على وثنية العرب على زمن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وقد ظلت هذه الواقعة معياراً لما ينبغي عليه أن تكون النظرة النسبية للمسلم تجاه غير المسلمين، المسلم الذي يقرأ في كتابه أن لا إكراه في الدين وأن التنوع سنّة الله في خلقه.

في بدايات تكوّن الصورة المعرفية
أخذت النظرة الغربية للإسلام بالتطور مع اتساع مصالح الغرب في الشرق عموماً، لكن هذا الاهتمام المتزايد بقي في المجمل من اختصاص مجموعات محددة عرفت بالمستشرقين، وكان لهؤلاء الدور البارز في تعميم الصورة السائدة عن الإسلام والمسلمين في الغرب. في المقابل فإن نظرة المسلمين الى أوروبا والغرب لم تشكّلها فئة معينة بحّد ذاتها، بقدر ما كانت هذه النظرة تتشكل تدريجياً تبعاً للتطورات الداخلية لكل بلد اسلامي وتبعاً للصراعات والنزاعات الناشئة عن مرحلة التوسع الاستعماري.

ولا يعني هذا ان المسلمين قبل ذلك لم يكونوا مهتمين بتكوين فكرة عن العالم المعمور، إلا أن هذا الاهتمام كان من اختصاص الجغرافيين في البدايات ، بدءاً بالمسعودي في "مروج الذهب"، وابن حوقل في "صورة الأرض" والاصطخري في "مسالك الممالك" والإدريسي في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" وأبي الفداء في "تقويم البلدان" والقلقشندي في "صبح الأعشى في صناعة الانشا" وابن خلدون في مقدمته الشهيرة ، ثم ابن أياس في "نشق الأزهار في عجائب الاقطار". صاغ هؤلاء وغيرهم صورة تاريخية وتقليدية استمرت لفترات طويلة، الا اننا نجد مقاماً مميزاً على الدوام لكل من القسطنطينية ورومية، وكانتا عاصمتي المسيحية في العصر الوسيط. وفي مرحلة تالية اعطى المسلم اهتماماً اعلى للفرنجة، وهو يعني الى حدّ بعيد سكان اوروبا الغربية، ومع ذلك بقي اهتمام المسلمين منصباً على الشرق اكثر بكثير من الغرب(3).

كانت أوروبا الغربية اللاتينية في ذلك الحين، واحدة من ثلاث قوى حول المتوسط، بالإضافة إلى المسلمين والبيزنطيين، وقد استمر التوازن بين هذه القوى طوال العصر الوسيط ولمدة ثمانية قرون تقريباً، بين بدء الفتوح الإسلامية وسقوط القسطنطينية. وواقع الامر ان كل قوة كانت تتوسع في اتجاه لا يصيب القوتين الأخريين، اوروبا الغربية اللاتينية باتجاه الشمال حتى سواحل البلطيق، ملحقة الصقالبة الغربيين بالكثلكة، اما البيزنطيين فقد اتجهوا نحو البلقان وروسيا، وتمكن الاسلام من توطيد انتشاره في آسيا الوسطى والهند.

وإذا كان المسلمون في ذلك الحين يمتلكون شيئاً من المعرفة عن قوة بيزنطة، الا ان معرفتهم باوروبا الغربية كانت غامضة. كانت أوروبا في القرن الحادي عشر قد وحدت هويتها مع الكثلكة، ونجحت في نشر هذه العقيدة بين قبائل الشمال البربرية بفضل جهود الباباوات وحملاتهم ضد الهراطقة والوثنيين، ولم يكن المسلمون على علم بكل ذلك، ولم تشر المصادر التاريخية الى اي جهد لتحقيق معرفة بقوة الغرب البشرية والسياسية الناشئة. بل ان هذه الحملات اخذت بالاتجاه نحو الشرق مدشّنة ما عرف باسم الحروب الصليبية، والتي كان لها آثار عديدة على اوروبا من الناحية المعرفية والسياسية، الا ان آثارها على المسلمين في هذا المجال كانت محدودة ، بل ان ما يرويه اسامة بن منقذ، وقد حارب الصليبيين وعرفهم، يؤكد الاتجاه الذي بقي يتّسم بالاستخفاف بهذه القوة المحاربة، وبعلومها وطبّها وعقائدها.

قد تبدو هذه النظرة استمراراً لما سبقها، فالجاحظ (المتوفي 868م) يرى الأمم المعتبرة أربعاً (العرب والفرس والهند والروم) اما بقية الأمم فهمج وأشباه همج، وهي ذات الامم التي يذكرها الاصطخري في "مسالك الممالك". ولم يكن هذا التقسيم دينياً بقدر ما كان يعتمد على ما انتجته هذه الامم في مجال الادب والعمران والفلسفة. وقد اعتمد صاعد الاندلسي (المتوفي 1019م) بعد قرنين ذات المقياس في تقسيم أمم العالم، رابطاً الامم النابهة والامم الخاملة حسب تقسيمه، بالعطاء الحضاري لكل أمة وبعوامل المناخ والبيئة. وقد وضع اليونان والرومان بين الشعوب النابهة الى جانب الهند والفرس والعرب، بينما ينسب باقي الأوروبيين الى الخمول.

لم تسهم الحروب الصليبية بدفع المسلمين الى معرفة القوى التي حاربتهم، على الرغم من أن ملوك وأمراء تلك الامم شاركت مباشرة في هذه الحروب، إلا أن انهيار الإسلام الأندلسي قبل نهاية القرن الخامس عشر، وقيام مملكة مسيحية قوية وخضوع ما تبقى من مسلمين لها، قد ترك آثاراً وردود فعل جديدة، أحدها ما عبّر عنه الفقيه احمد بن يحي الونشريشي الذي رأى: "ان الهجرة من ارض الكفر الى أرض الإسلام فريضة الى يوم القيامة... ان محبة الموالاة الشركية والمساكنة النصرانية والعزم على رفض الهجرة والركون الى الكفار ونبذ العزّة الإسلامية... فواحش عظيمة مهلكة قاصمة للظهور تكاد تكون كفراً والعياذ بالله...". لقد عبّرت هذه الفتوى عن وضع مستجدّ في المغرب الأقصى تأسس على رفض صارم يقيم القطيعة مع الكفر وعالمه، مكان التجاهل والاحتقار، ممّا يؤسس لعداء سوف يسهم مرور الزمن بتصليبه وتغذيته. لقد شكلت (حروب الاسترجاع) وما نتج عنها من طرد للمسلمين واليهود في الأندلس، ضربة قاصمة للتعايش الديني الذي كان قائماً من قبل والذي عبّرت عنه أدبيات ذلك العصر.

وفي الجهة الأخرى من العالم الاسلامي كانت الدولة العثمانية تتقدم في أوروبا الشرقية محققة أحلام المسلمين الأوائل بفتح القسطنطينية، مما سيؤدي الى تعزيز ثقة المسلمين بتفوقهم من جهة، ويدفع بمعرفة العثمانيين المسلمين بدول أوروبا وشعوبها الى التعمق.

دخلت العلاقات الأوروبية الإسلامية عصراً جديداً في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وليس سقوط القسطنطينية سوى علامة على بروز قوتين في محيط البحر المتوسط، الدولة العثمانية لجهة الشرق وأوروبا الغربية في الجهة المقابلة. أمام هذه التحولات، ومع زوال الإسلام الأندلسي والبيزنطيين، كان محتماً على كلا القوتين ان تزيد معرفتها بالاخرى. ومع مرور الوقت أخذت كل قوة تنظر الى الأخرى كواقع سياسي وعسكري قبل كل شيء، على الرغم من ان الدين كان صاحب التأثير القوي على الأفراد والجماعات والدول في ذلك الحين.

كان الإسلام العثماني يشكل خطراً بادياً في وسط أوروبا، يستشعره الغرب، أيضاً كان الغرب يشكل خطراً متزايداً في شمال افريقيا وفي بحر العرب والمحيط الهندي، رغم القوة الكبيرة والمرعبة للبحرية العثمانية التي حافظت على هيبتها حتى نهاية القرن الثامن عشر، حيث بدايات التراجع العثماني امام القوة العسكرية الاوروبية الصاعدة، والتي نبهت النخبة العثمانية الى ما ينتظر الدولة والى ضرورة الاصلاح العسكري وضرورة الإستفادة من الخبرة والمساعدة الأوروبية، في هذا المجال، والانفتاح على التقدم الغربي الذي اصبح ملموساً.

صدمة اكتشاف "الآخر" المتقدم
أدخلت الثورة الفرنسية (1789م) تطوراً جديداً في صورة أوروبا من منظور إسلامي، فبالإضافة الى فكرة أوروبا المتقدمة، بدأ التعرّف والاحتكاك مع فكر سياسي من نوع جديد، حيث برز لأول مرة ان نظاماً سياسياً يقوم على مبدأ الحرية، وهو الأمر الذي لم يعهده المسلمون من قبل، على الرغم من انه يمكن العثور على تعبير الحرية في الآداب الإسلامية الكلاسيكية، إلا ان مفهوم الحرية Liberté كمبدأ سياسي لم يكن متداولاً بين المسلمين حسب الفهم الأوروبي، وأول من تنبه إلى مدلوله بالصيغة التي اطلقتها الثورة الفرنسية كان الاتراك العثمانيون عبر سفرائهم في باريس، الذين اكدوا تباعاً عبر تقاريرهم ما يعنيه هذا المفهوم، والذي نظر اليه سلبياً في البداية، فضلاً عن مفهوم الثورة الذي اعتبر اقرب إلى الفتنة والبلبلة والانقلاب، كما تمّ التعرف الى مفهوم الاستقلال ومفهوم الجمهورية بمعناها الحديث. كان لاكتشاف هذه المفاهيم أثره في تدشين معالم صورة معرفية جديدة عن الوضع السياسي الناشئ حديثاً في أوروبا الليبرالية(4).

ربما يمكن القول ان المسلمين العرب ما كانوا على مستوى تنبه العثمانيين الى صعود القوة الأوروبية قبل حملة نابليون الى مصر (1798م)، حيث شكلت هذه الحملة الصدمة التي دفعت مصر والمشرق العربي الى التنبه لهذا الخطر القادم. فالجبرتي في "عجائب الاثار" لا يشير اطلاقاً الى الأوروبيين قبل عام (1798م) وهو الذي لا يتردد في التعبير عن صدمته تجاه الغزو الفرنسي، ويتوقف ليناقش بهدوء الآراء والشعارات التي عرضها الفرنسيون. لم يذهب المصريون بداية الى أوروبا ليكتشفوا منجزاتها بأنفسهم، بل جاءت أوروبا اليهم وفرضت صورة القوي والمعتدي والمتقدم في وقت واحد. خرج الفرنسيون فيما بعد من مصر، إلا أنّ ما بقي من انطباعات عن التقدم التقني وما رافقه من دهشة واعجاب كان دافعاً ومنبهاً الى دراسة ما يحدث في شطر آخر من المعمورة.

كانت رحلة رفاعة الطهطاوي (1801-1873م) بداية المعرفة العلمية البعيدة عن الغموض بأوروبا والغرب الناهض، فقدّم لمعاصريه صورة مزدوجة، وجهها الأول يتناول التقدم الاوروبي وجهها الآخر يتناول النظام السياسي وصورة أوروبا الليبرالية. ولم يكن يرى انه من المجدي معرفة أيّهما سبب للآخر، بل اعتقد أن منجزات المدنية الأوروبية يمكن استيعابها دون ان يتعارض ذلك مع الشريعة الإسلامية(5). كان أيضاً لتجربة خير الدين التونسي (1801-1879) الاصلاحية دلالة عميقة ففي كتابة الشهير "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" (6). يفنّد المبررات التي تمنع الأخذ بأسباب التمدن الأوروبي، ويتوقف في لفتة هامة عند مفهوم الحرية فيقول: "الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأوروبية" ويعمد الى شرح هذا المفهوم بكل أبعاده.

يبدو واضحاً ان صورة أوروبا الليبرالية المتقدمة قد انتشرت خلال القرن التاسع عشر في كافة أنحاء العالم الإسلامي، ولم يتردد كثير من المسلمين، وجدوا فيما أحرزته أوروبا من مدنية وقوة وحرية، في اتخاذ النهضة الأوروبية كنموذج ومثال. وساهم بتعميم ذلك كون بعض الحكام، تبعاً لظروف بلادهم، قد اندفعوا في تجارب اصلاحية، تستلهم ذلك النموذج. وقد تم ذلك في مرحلة كان يمكن فيها المراهنة على التوفيق بين تقدم الغرب العلمي وامكانية الاستفادة من تجربته وانجازاته دون ان يمس ذلك ايمان المسلمين وثوابت عقيدتهم. ولم يكن ممكناً الشك بدعاة الإصلاح هؤلاء، فأغلبهم خرج من بيئات إسلامية عريقة. ومع ذلك فإن دعوات الأخذ عن أوروبا لم يكن مقدراً ان تمرّ دون ان تثير ردود فعل متباينة في رفضها وعدائيتها.

ففي تركيا نجح تحالف الجهاز الديني وبقايا نخب الانكشارية في احباط محاولات السلطان سليم الثالث الاصلاحية باعتبارها بدعاً وتقليداً للكفار، فأطاحوا به عام 1807، وتوقفت مسيرة الإصلاح والتجديد بالقوة. إلا ان هذا النوع من ردود الأفعال تأخر بالظهور في مصر والعالم العربي، باعتبار ان دعاة الإصلاح والأفكار الجديدة ، كانوا في غالبيتهم من قدماء تلامذة الأزهر، وباعتبار ان حكام مصر من محمد علي إلى اسماعيل كانوا يقدمون انفسهم بصفتهم المدافعين عن الاسلام، وهم في الوقت نفسه دعاة انفتاح على المدنية الأوروبية والاستفادة من علومها، لذلك لم توجه إلى أي منهم تهمة الكفر أو الخروج على الدين(7).

صورة اوروبا المقرونة بالاستعمار بدأت تتكشف بوضوح في هذه المرحلة، ويمكن ان ننسب الى جمال الدين الافغاني (1839-1897) قبل اي مسلم آخر، كشفه لهذه الوجه الاستعماري على نطاق واسع وخاصة بمقالاته التي كتبها مع تلميذه وزميله الشيخ محمد عبده في مجلة العروة الوثقى. ورغم اعجابه بشعارات الحرية والمساواة والاخاء، واشاراته الايجابية للنظام الدستوري الا انه كان شديد الوضوح في تحميل الاستعمار مسؤولية انحطاط المسلمين، وان الرد عليه يكون بوحدة المسلمين وعودتهم الى حقيقة دينهم. ورغم ان الشيخ محمد عبده كان اقل اهتماماً بالسياسة، ورغم معرفته بتقدم اوروبا، الا انه رفض تقليد الأوروبيين، بل كانت معرفته دافعاً له في اتجاه تبني مشروع الاصلاح الديني. يمكن القول ان الأفغاني وعبده، قد أطلقا ما يمكن ان نسميه الحوار الايديولوجي والسياسي مع الغرب، والذي ترددت اصداؤه في ارجاء العالم الاسلامي، وهو حوار سيأخذ مداه مع رشيد رضا وشكيب ارسلان، ومحمد اقبال في الهند، ومالك بن نبي وغيرهم.

سلطة النموذج واشكالية المرجع
دشّن العرب يقظتهم الحديثة اوائل القرن التاسع عشر باشكال حضاري لا يزال يفرض نفسه حتى اليوم. فحضور الغرب في مشاريعنا المستقبلية حضور مزدوج :نحن نستحضره كخصم نخشاه وفي ذات الوقت كمثال ونموذج يفرض علينا الاقتداء به بشكل من الاشكال، على الاقل في مجال العلم والتكنولوجيا. إنه "الآخر" الذي تشعر "الأنا" انه يلغيها، لكنه في نفس الوقت " المثال" الذي لا تستطيع "الأنا" ان تفكر في مستقبلها بدون الارتباط به نوعاً من الارتباط.

لقد وجد العرب أنفسهم أمام "نموذجين"حضاريين" النموذج الأوروبي الذي مثّل لهم تحدياً ثقافياً وعسكرياً ، كان بمثابة الصدمة التي أيقظت وعيهم بضرورة النهضة، خاصة وان هذا النموذج حمل اليهم الحرية والقمع، ممثلين بالأفكار الليبرالية والعلمانية من جهة وبالغزو الاستعماري من جهة اخرى. في المقابل كان النموذج العربي الاسلامي يقدم نفسه كمثال تاريخي رائد يدغدغ الاحلام، لكنه على أرض الواقع ينوء بحمل عقود طويلة من الركود والانحطاط.

لقد كان السؤال الذي هيمن على الخطاب النهضوي العربي ولا يزال، منذ بدء يقظته الحديثة يدور حول أيهما يجب ان نؤسس عليه نهضتنا: النموذج العربي الاسلامي كما جسّده، بل كما فهمنا نحن من "السلف الصالح"، أم النموذج الاوروبي كما جسدته، بل كما فهمناه نحن من الليبرالية الغربية وما تفرّع عنها؟ وبصيغة أخرى ماذا يجب أن نأخذ من التراث لنحقق "الاصالة" وماذا يجب ان نأخذ من الفكر الاوروبي لنحقق "المعاصرة". وفي جميع الاحوال هناك نموذج سلف، هو اما التراث واما الغرب، واما جزء منهما، يمارس سلطته على الفكر العربي فيحتويه ويوجهه ويختار له.

سلطة النموذج الاسلامي كما شيده السلفي لنفسه، بخياله وصدق مشاعره هي التي جعلته يفهم النهضة ويتصورها على انها العودة الى ما كان عليه "السلف". وبالمثل فسلطة النموذج الاوروبي كما التقطها الليبرالي العربي في ذهنه، ومن جاء بعده ممن يتخذون اوروبا سلطة مرجعية، هو الذي جعل كلا من هؤلاء يفهم النهضة على انها استعادة واسترجاع لمسيرة النهضة الاوروبية واقتداء بآثارها.

يلخص الجابري هذا القلق النهضوي معتبراً ان "سلطة النموذج" منعت، وتمنع من ان نتنبه الى ان الاصالة الحقيقية بالنسبة الينا نحن الذين يغمرنا التراث من كل جانب هي تلك التي يجب ان نحققها من خلال استيعاب الفكر العالمي المعاصر، وهي التي منعت، وتمنع من ان نتنبه الى ان المعاصرة الحقيقية بالنسبة الينا نحن الذين تتقاذفنا يميناً ويساراً تيارات الفكر الاوروبي، هي تلك التي يجب ان نحققها في تعاملنا مع التراث، وبالتالي في تجاوزنا له انطلاقاً من داخله، لا من مكان يقع خارجه.

السلفي والليبرالي والتوفيقي لا يستطيع ان يمارس الاصالة والمعاصرة معاً ما دام محكوماً بسلطة النموذج ومهجوساً باشكالية المرجع، سواء كان هذا النموذج مستحضراً من التراث او مستوحى مما يعرضه الفكر الاوروبي، او كان شيئاً من هذا وذاك على طريقة احسن ما في الاثنين.

ربما كان مفهوماً ان يميل الانسان بطبيعته الى ان يفكر بنموذج او من خلال نموذج ، لكن هناك فرقاً بين نموذج يؤخذ كرفيق ومرشد وبين نموذج يؤخذ كأصل يقاس عليه: النموذج حينما يؤخذ اصلاً، سلفاً، يصير سلطة مرجعية ضاغطة، قاهرة، تحتوي الذات احتواء وتفقدها شخصيتها واستغلالها. ان ثنائية المرجع والنموذج ، بقدر ما يمكنها ان تكون مادة رحبة لتوفيقية ساذجة، يمكنها ايضاً ان تنتج، نوعاً من الفصام الثقافي والانشطار الوجداني الذي يمكن اعتباره نتاجاً طبيعياً لثقافة الخوف والرغبة، الخوف من الغرب، والرغبة في امتلاك علومه واسباب تطوره. ويؤدي هذا كله ان هذا النوع من الخطاب، الغارق في تبعيته لسلطة النموذج سيبقى يتساءل، كما كان يتساءل منذ قرن واكثر، ماذا يجب ان نأخذ من التراث وماذا يجب ان نأخذ من الغرب، دون ان يتساءل ماذا يجب ان انتج واعطي، وكأننا لم نأخذ من التراث شيئاً حتى الآن ، ونحن غارقون فيه، اوكأننا لم نأخذ من الغرب شيئاً بعد، اوهو بإنتظارنا كي ننتقي منه ما نشاء دون ان يدمجنا في منظومته(8).

يبدو انه مقدر لهذا التناقض الحاد الذي انطوت عليه صورة الغرب في اذهان المسلمين ان يستمر ونحن ندشن قرناً جديداً، فالسلفي الجديد يريد تحرير الفكر باستخدام الاشكالية المعرفية القديمة، فهو لا ينتج العلم بقدر ما يتحدث عنه، انه يريد الاصلاح من خلال العقل الماضي. اما الليبرالي في عصر العولمة فهو ايضاً يريد توريث العرب تاريخاً ليس تاريخهم من خلال العمل على تعميم ثقافة الواقعية البراغماتية المفضية الى التبعية والتقليد، وهكذا يلتقي السلفي الجديد والليبرالي الجديد مرة اخرى، فكلاهما يرى "النهضة" في القفز على التاريخ لا في صنعه، الأول عن طريق العودة الى منهج السلف، والثاني عن طريق العودة الى المبادئ الاوروبية النهضوية قبل الاستعمار.

ومع ذلك ثمة ما يؤكد اننا نعيش مرحلة النهاية لهذه الاشكالية المتجددة، اسلام –غرب، لانه لم يعد هناك اسلام موحد، ولان الغرب اصبح مزيجاً مركباً. فالثقافة العربية في حالة تفتت والحضارة الغربية في حالة تجزء، والحداثة آخذة بالانفصال عن الغرب، ومسلم القرن الحادي والعشرين منخرط في مخاض الهوية والانتماء ، فقد انهار الاطار السياسي الموحد، وتشعب الاسلام، الى تركي وفارسي وعربي، وهو مستمر فقط كثقافة وحضارة وايمان، في عالم تهيمن فيه الدول، التي تدنسها المصالح والمنافع، اكثر مما تطهرها المبادئ والمثل، وعليه تبقى الاخلاقيات والشعارات رمزاً لزمن جميل، تقنّع السياسات الواقعية على أرض يعيش عليها المئات من ملايين البشر الجائعين الذين يريدون خبزاً لا مواعظ.

بل يمكن ان نعتبر اليوم ان الحديث عن ثنائية الغرب-والاسلام اقرب الى الاسطورة والخرافة، حيث يتم تصويرها على شكل قوتين متصادمتين، فالفاعلون الاساسيون في العلاقات الدولية هم الدول وليس الثقافات او الاديان، ذلك انه وإن كنا نعيش في عصر العولمة بكل ما يتضمنه ذلك من الحركة الطليقة للافكار عبر الحدود، بفضل الثورة الاتصالية الكبرى، فضلاً عن تدفقات رؤوس الاموال وحركة السكان والهجرة، الا اننا ما زلنا نعيش في عالم تهيمن عليه الدول التي تلعب دوراً مركزياً في صياغة السياسات المختلفة وتطبيقها. وحين نتحدث عن الدول فنحن لا نشير فقط الى كيانات قانونية، ولكن ايضاً الى هياكل ادارية لها جيوش ووزارات وسياسات، وهذه الدول تقتسم العالم. ولدينا في الوقت الحاضر 195 دولة. وعندما نحلل سلوك الدول في مجال العلاقات الدولية، فليس هناك لا "اسلام" واحد ولا "غرب " واحد. هناك 55 دولة اسلامية اعضاء في منظمة المؤتمر الاسلامي، وهناك دول مثل اثيوبيا والهند توجد فيها جاليات اسلامية كبيرة، وهناك حوالي 16 مليون مسلم في روسيا واكثر منهم في الصين وما يقرب من هذا العدد في قلب اوروبا منتشرين بين دولها.

وهناك من هذه الدول لها مصالحها المستقلة، كما لديها تعريفاتها الخاصة لتقاليدها القومية، وبالتالي لكل منها طريقتها في الارتباط بالتقاليد الاسلامية وذلك فيما يتعلق بمجالات الواقع وليس بطنين الخطاب. ولكل منها ايضاً سياساتها الخاصة في مجال العمالة، والبنى السياسية، ووضع المرأة ومعاملة الاقليات.

وبعبارة اخرى كل دولة كيان مستقل له ذاتيته الخاصة التي اكتسبها من تاريخه الاجتماعي، على الرغم من انها جميعاً بلدان اسلامية. فالحديث عن "الاسلام" وكأنه كتلة واحدة صماء والحديث عن "المسلمين" وكأنهم وحدة اجتماعية مترابطة بنيوباً، لا يغني الفهم في مجال العلاقات الدولية، بقدر ما يضلل هذا الفهم، ويمارس نوعاً من التعمية والخداع.

ونفس المسألة تنطبق عن الحديث عن "الغرب" فليس هناك غرب واحد، حتى في مسألة الديموقراطية ، ليس هناك نظرية غربية متكاملة عن الديموقراطية الغربية، وان كان هذا لا ينفي ان هناك مثالاً ديموقراطياً تسعى كل دولة غربية الى تطبيقه على ارض الواقع. بعبارة اخرى ثمة سمات اساسية لعل ابرزها تداول السلطة، والانتخابات الدورية، وضمان حرية التفكير والتعبير والتعددية السياسية وفصل السلطات. غير ان ذلك لا يعني ان الممارسة الديموقراطية متماثلة في كل البلدان الغربية. ذلك ان التاريخ الاجتماعي الفريد لكل بلد غربي غالباً ما يكسب هذه الممارسات سمات خاصة قد لا تتكرر كما هي في مكان آخر. فالديموقراطية الانكليزية تختلف في التطبيق عن الديموقراطية الفرنسية، وكذلك الحال بالنسبة للديموقراطية الاميركية(9).

بل ان سلطة "النموذج" في حدّيه: السلفي والحداثي او الاسلامي والغربي، أخذت تصبح مائعة، مفتتة، بعد توسع المركز، وتجزء المثال، وتعدد النموذج وتعولم العالم. فالحداثة اخذت بالاستقلال عن الغرب وثبت انها يمكن ان تتوطن في مناطق "الاخر"، فنشأ مفهوم "الشمال" و"الجنوب" والذي بدوره لم يصمد بعد ظهور "آخرين" جدد في الجنوب صنعوا ايضاً حداثتهم. لكن تحديات العولمة أفضت الى اكثر من نموذج ضمن منظومة الغرب نفسه، فظهرت "الامركة" كنموذج عالمي جديد نشأ كمحصلة تفاعل طبيعي بين الثقافات في الغرب نفسه، لكنه في نفس الوقت طرح نفسه كنظام جديد من العلاقات بين الثقافات نشأ في سياق صراع التكتلات الرأسمالية الكبرى على الهيمنة العالمية. انه في بنيته العميقة يعكس هذه الهيمنة ويكرس الموقع المتميز للولايات المتحدة فيها، ويرسي تغيرات جيو استراتيجية وجيو ثقافية تفعل فعلها في فضاء ثقافي معولم، يخترق كافة الثقافات القومية، ليس في الجنوب فقط بل في الشمال ايضاً. فكما كان "المركز" اوروبياً في عصر التنوير، اصبح اميركياً في عصر العولمة، والباقي من العالم "اطراف".

الخروج من الثنائيات
يبقى السؤال الاشكالي يطرح نفسه بقوة عند كل نقاش في هذا الموضوع: كيف نخرج من هذه الدوامة دون ان نخسر ذاتنا، فلا تذوب او تستتبع، او تنغلق فتتحجر وتقبع في قلب التاريخ وتخسر المستقبل؟ التكفير المتبادل ينتج القطعية المتبادلة، وهو في الحقيقة نتاج الاسطرة المتبادلة ، كل منهما يلقي الابلسة على الاخر، فإذا بنا ازاء الضلال والفساد والانحطاط الى مستوى اللذائذ كتهمة موجهة الى ثقافة انتصار السوق التي انتجها الغرب، وإزاء الظلامية والتحجر والعنف والارهاب كتهمة موجهة الى الثقافة الاصولية. والحال ان الحرب المفتوحة هي الحالة الوحيدة القائمة بينهما، وهنا يلعب التنكر المتبادل دوره كاملاً كآلية مطلوبة من كل منهما لتبرير حربها على الاخرى. التنكر يشرعن العنف الموجه الى الطرف الاخر، حيث يتحول الى حالة دفاع عن الذات، ليس غريباً اذا قيام كل طرف بتغذية عنف الطرف الاخر في معركة الاحقية الوحيدة(10).

وهو ما أجاد التعبير عنه داريوش شايغان في "النفس المبتورة" حيث الخيار المطروح على الانسان هو التمزق، وبتر كيانه الى بعديه الرئيسين: إما بعد الحاجة والرغبات وإما بعد المثاليات. النفس المبتورة هي حالة مأزقية لا تملك ضمانة الاستمرار لانها تفتقد الى التكامل الوجودي، لذلك هي تلجأ الى "التصفيح" وهو في الغالب عملية لاواعية، يتم من خلالها وصل عالمين متباعدين لدمجها في الكل المعرفي المتناسق. يمكن للتصفيح ان يجري بطريقتين متعاكستين، لكن نتائجهما تبدو واحدة نسبياً. ففيه يمكن تصفيح خطاب جديد (حديث) فوق مضمون قديم، او على العكس، خطاب قديم (سلفي) فوق مضمون جديد. في الحالة الاولى سنحصل على التفرنج او التغربن، وفي الحالة الثانية سنحصل على التأسلم. تبدو هاتان العمليتان كأنهما متناقضتان، لكنهما متقاربتان، فهما تؤولان معاً الى الظاهرة نفسها: التمزق والاختلال. لماذا؟ لأن "المضمون" الذي نلصق فوقه الخطاب الجديد او القديم ، ليس قديماً ولا جديداً، انه مضمون خلاسي، اي مزيج من الاثنين وحقل انشطار وتشويش. وفي الحالتين ستكون امامنا نظرة مبتورة، ملتوية، ذات رؤية متقلبة وطائشة، كما لو انها تخضع لتأثير مرآة مشوّهة. ويصبح بالتالي لا اهمية للتصفيح المتحقق أكان علمانياً أم دينياً، فالنتيجة ستكون بين الاثنين ، لكنها لن تكون مطابقةً للواقع.

إن موقف رفض الهيمنة والكشف عن آليات التبعية وتشديد الصراع ضدها، هو الارضية التي بدونها لن يكون بمقدورنا بناء دفاعات حضارية فعالة(11)، لكن هذا وحده غير كاف للمشاركة الايجابية في الحضارة العالمية، انه موقف يبني متاريس تمنع دخول مؤثرات ثقافية خارجية، وخطورته انه يفضي الى الانعزال والتقوقع، ويعيق التفاعل والتجدد، ويدمر امكانيات الانطلاق والتفتح، وهو من الآليات الدفاعية البسيطة التي تجعلنا اكثر قابلية للسقوط والتداعي. انه صراع خاسر في معركة اثبات الوجود وتأكيد الكرامة والاحترام، وسيبقى كذلك اذ لم يترافق مع حراك ثقافي ذاتي باتجاه بلورة حلول جديدة ومبدعة لمشاكلنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. اي ان الامر يتطلب اطلاق ورشة تاريخية لاعادة بناء الذات وتأهيلها لمواجهة العصر بأدوات وآليات جديدة، وليس الاكتفاء بالدفاع عنها والتغزل بمزاياها والاعتزاز بماضيها والتشهير بخصومها.

ومغادرة حقل الثنائيات التي وقع فكرنا في أسرها، هو أحد المفاتيح الاساسية، لتجاوز الاختزال المتعسف الذي نمارسه في التعامل مع الظواهر والمستجدات. ثنائيات عديدة: الاصالة والمعاصرة، المثالية والمادية، الذاتية والموضوعية، الفرد والجماعة، الحقائق والقيم، التغيير والاستقرار، الطوعية والجبرية، العقلانية واللاعقلانية، التعليم والتربية، فضلاً عن لائحة قد تطول عن ثنائيات تشمل وتختزل بشمولها مجمل التحديات التي تواجهنا، وبرغم ان هذه الثنائيات مفيدة احياناً كتقسيمات تحليلية، الا انها غالباً ما تؤدي الى نتيجة سيئة وهي اخفاء معالم الاعتماد المتبادل بين الظواهر . لقد حطمت تكنولوجيا المعلومات الكثير من الثنائيات التي كانت تحجب عنا طيف الرماديات التي اتسّع مداها بشكل فضاءات ترسم مسارات اتصال وتفاعل جديدة في المعنى والمدلول. ويبدو اننا لم نستوعب بعد حقيقة ان فكر الغرب لم يكن له ان يتخلص من أسر هذه الثنائيات الا عندما اصبح ناظراً اليها على انها وسائل لتنظيم الفكر لا غاية له(12).

ويبدو أيضاً اننا لم نتنبه الى ان فكر العصر لم يعد فكراً خطيّاً Non liner thinking يرى معظم الظواهر في هيئة سلاسل متلاحقة متدرجة تتحرك من نقطة بداية صوب غايات محددة مسبقاً. لقد كان هذا في الماضي، حيث نما الفكر خطياً، من التفكير الحسيّ الغريزي، الى ادراك المحسوسات، ثم التعامل مع المجردات. ومعرفة المجتمعات كانت في نظر البعض ايضاً ترتقي هي الاخرى خطياً، من الاسطورة الى السحر الى الميتافيزيقيا الى العلم. كذلك على صعيد علاقة التكنولوجيا بالمجتمع، فقد طرحها فكر الماضي في خطية صارمة مؤداها: العلم يكتشف، التكنولوجيا تطبق، والمجتمع عليه ان يتكيف معها. أما خطية الفكر التاريخي فسافرة في احداثه المتعاقبة وسرده ذي التتالي الزمني والمتسلسل والذي جاءت فلسفة هيجل فيما بعد لتضيف الغائية الى الخطية، حيث احالت التاريخ الى مسار جدلي متصل يتحرك خطياً نحو غايات مطلقة. انها النزعة الخطية التي سادت فكر الماضي، لكن هذه النزعة ثبت انها تتناقض جوهرياً مع الواقع، فمعظم ظواهر هذا الواقع ذات طابع غير خطي، حيث النقلات الفجائية والتغيرات العشوائية ومسارات التفكير المتوازية والمتداخلة، وأصبحت تكنولوجيا المعلومات قادرة على تخليص الفكر الانساني من ميكانيكية التفكير الخطي وقوانين العلة والاثر الكامن وراءه. ويؤدي هذا كله ان مغادرة حقل الثنائيات المضللة، وكسر تسلسل التفكير الخطي الذي يتحكم بذهنيتنا الثقافية يفتح امامنا آفاقاً اكثر رحابة وقدرة على احداث القفزة النوعية المطلوبة لمواجهة هذا التفاوت المتزايد في عصر العولمة.

واذا بقينا مهجوسين بالدفاع والممانعة والاحتجاج والرفض، متناسين واقعنا، غافلين عن تخلفنا، مبهورين بسحر الثقافة المسيطرة، مفجوعين بفقدان الغلبة، لن ننجح في بناء المستقبل ولا في صدّ موجات الغرب المعولم. ولا يمكن ان نربح الصراع الا بقدر ما نخرج من المواقف السلبية ومواقع ردود الافعال الطبيعية، الى حالة تعزز فيها شروط التكامل العقلاني والموضوعي والنقدي مع الوافد الثقافي والتكنولوجي، كما مع التراث والذات والواقع الاجتماعي بكل ابعاده ومفاعيله. ما لم نتجرأ على نقد الذات دون يتحول هذا النقد الى جلد او تنكر، لن يحقق لنا الدخول في عالم لا يعترف بمن يتخلف عن ركبه. فالدفاع الحقيقي عن الهوية لا يتحقق بالمحافظة عليها كما هي، ولكن من خلال اعادة بنائها في سياق جديد يتناسب ومعطيات التطورات الهائلة الحادثة في العالم. فالهامشية والانعزال تعزز التبعية والاستتباع وتؤدي الى التواكل والركون الى السهولة في ظل الحماية، بينما التنافس لكسب الصراع يدفع الى تجديد القوى الحية في المجتمع ويرفع مستويات الاقتدار والجودة، ويحسن الاداء والنوعية، ويفتح افاق الابداع والاتقان في معركة بناء الانسان وتجديد الذات وتحفيز قدراتها.

وهو أمر ممكن اذا ما وعينا ان الحضارة الغربية، كأي حضارة هي موضوع بشري ونتاج انساني قبل كل شيء، ولانها كذلك فهي نسبية وليست مطلقة القوة او "نهاية التاريخ". ان ما نحتاج اليه هو ثورة ثقافية تنهض كفعل تجديد وتنوير من خلال اعادة النظر بكل المنظومات الثقافية الوافدة او الموروثة، ورفض التقليد لاي منهما، والعمل وفق منهجية" الاستيعاب والتجاوز" عبر الاضافة والاغناء، باتجاه تأسيس وعي ثقافي جديد غير مغترب عن روح العصر، او مستلب الارادة والفكر، بحيث يستطيع ان يستوعب انجازات الثورة العلمية والثقافية، على نحو ما فعلت اليابان وغيرها، دون ان تخسر هويتها وخصوصيتها الثقافية. وما لم نفعل ذلك سنبقى نبكي ملكاً كالنساء لم نحافظ عليه كالرجال... فهل نحن فاعلون؟

وشكراً

المراجع والمصادر
1- محمد عبد الجابري: مسألة الهوية، العروبة والاسلام... والغرب مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1997، ص 135.
2- رضوان السيد: الصراع على الاسلام، الاصولية والاصلاح والسياسات الدولية، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 2004، ص 173.
أنظر ايضاً حول مفهوم دار الاسلام، عبد اللطيف حسني: التصور الاسلامي للعالم، مجلة الاجتهاد، العدد الثاني عشر، السنة الثالثة، بيروت، 1991، ص 89.
3- انظر عرضاً معمقاً لهذه النظرة الجغرافية الاولى في :خالد زيادة، تطور النظرة الاسلامية الى اوروبا، معهد الانماء العربي، بيروت، ط1، 1983، ص 16-36.
4-انظر لتعميق هذا الموضوع عبدالله العروي: مفهوم الحرية، دار الفارابي، بيروت، 1982، ايضاً فرانز روزنتال، مفهوم الحرية في الاسلام، ترجمة وتقديم معن زيادة ورضوان السيد، معهد الانماء العربي، بيروت، 1979.
5-نشرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر المؤلفات الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوي في مجلدين عام 1973.
6-خير الدين التونسي: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تحقيق معن زيادة دار الطليعة، يبروت، 1982
7-انظر كتاب: عبد الغني عماد: السلطة في بلاد الشام في القرن الثامن عشر، دار النفائس، بيروت، 1993، ص 17-23
8-محمد عابد الجابري: " من هيمنة النموذج الى الاستقلال" جريدة السفير اللبنانية، (11/4/1982)
انظر ايضاً كتابه اشكاليات الفكر العربي المعاصر وكتابه المشروع الحضاري العربي، الصادرين عن مركز دراسات الوحدة العربية
9-أنظر عبد الغني عماد: عبء الاخر، صورة العدو في الفكر السياسي الاميركي، دار الانشاء، طرابلس-لبنان، 2004، ص 151-155
ايضا أنظر : فريد هاليداي : الاسلام وخرافة المواجهة: الدين والسياسة في الشرق الاوسط ، ترجمة محمد مستجير، مكتبة مدبولي، القاهرة ، 1997.
10-مصطفى حجازي: حصار الثقافة بين القنوات الفضائية والدعوة الاصولية، المركز الثقافي العربي، 1998، ص 156-157
11-دار يوش شايغان: النفس المبتورة، هاجس الغرب في مجتمعاتنا، دار الساقي، بيروت، 1991، ص 94-95
12-نبيل علي: الثقافة العربية وعصر المعلومات ، رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد (265) يناير 2001، ص (201-202).

______________________________

تعقيب الدكتور طارق متري
شكراً للدكتور عبدالغني عماد على هذه المداخلة اللافتة بدقتها ووضوحها وجسارتها. لقد دعانا إلى الخروج من أسس الثنائيات. وبين لنا أن الخروج من اسر هذه الثنائيات ليس خروجاً على الإسلام بل إنه يندرج في سياق الخبرة التاريخية الإسلامية، ثم حاول ان يبدد الإلتباس ما قد نسميه بين الإستغراب والتغرب وخلص إلى دعوتنا لكي نسلك معه في ما يشبه الطريق الضيق بين أهل القطيعة وأهل التبعية وله الشكر في هذا وذاك.
في نفس الموضوع سوف يحدثنا الآن الدكتور رفعت سيد احمد المثقف والكاتب المصري المعروف وهو المدير العام لمركز يافا للدراسات والأبحاث في القاهرة والمنسق العام للجنة العربية لمساندة المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين. وله مؤلفات كثيرة بلغت زهاء 30 مؤلفاً في قضايا الفكر العربية والإسلامية، وله مقالات اسبوعية في غير صحيفة ودورية عربية، الدكتور رفعت فليتفضل.