اليوم الأول - الجلسة الافتتاحية
سماحة الشيخ بهجت غيث
شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون الكرام
شرفني صاحب السماحة الشيخ بهجت غيث شيخ عقل الموحدين بالمساهمة عنه وإلقاء كلمته في مؤتمركم الكريم، مؤتمر الكلمة السواء التاسع وبدعوة مشكورة من القيمين على مؤسسات الامام موسى الصدر، الامام المغيّب في غياهب ظلمات هذا الزمن المسرع بأهله الى المجهول وأصبح البحث عن حقيقة اختفائه لا يقل صعوبة عن البحث عن موقع الحرية في الاصلاح والتجديد. فالذي ألمَّ بالخليقة وجعلها تنهض وتفور دفعة واحدة هو الانكشاف عن الصورة الحقيقية لهذا العالم اذ لم يعد هناك مجال للتستر والتمويه والاقنعة، ولا بدَّ من الصراحة والوضوح، حيث لا يتحققان سوى بلغة العقل التي قد تجرح الذين تعودوا سلوك التقليد الأعمى وسلس الانقياد دون التفكير بحقيقة واقعهم فباتوا يسبحون في مستنقع الاحلام والاوهام وينشطون لتسويق بضاعتهم الفاسدة عند المزيد من النوَّام. فغدا الحق غريباً نائياً عن أهله حيث خرجوا لجهلهم بحقيقة جوهر الاديان، خرجوا عن حقيقتهم إلى حقيقة الشيطان، وانقلب الزمان وكاد الشر الأكبر أن يخدع العالم ويتمظهر بالخير الأكبر، فهذه معاني الأبلسة والشيطنة والتدجيل وتلبيس الباطل بالحق لإظلال الكثير من الخلق. ولا سبيل أيها الأخوة للخلاص من هذا الفخ الكبير إلا بيقظة العقول، فلا منطق دون العقل وبه تُعْرف جميع الاشياء، وهو النور الذي جاء الى العالم فأحب الناس الظلمة أكثر من محبتهم للنور وهو الحق الذي ذكره الكتاب العزيز ﴿لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون﴾ ]الزخرف/77[ أو ليس الحق لغة النظام الكوني المخلَّص من هذه الفوضى العاتية ﴿وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيرَّوا ما بأنفسهم﴾ [الرعد/11].
أيها الأخوة الكرام ان المشكلة الحقيقية تكمن في الفهم والمعرفة لحقائق الأشياء وليس في العلم والاطلاع على مواصفات الاشياء فالعلم متقدم ومزدهر ويسهل الحصول عليه عبر الوسائل المتعددة والمتطورة جداً ولكنه من فلسفة النفسِ وغرائزها ومطامعها التي تودُّ من خلالها تحقيق رغباتها المادية المعنوية.
اما المعرفة فهي لطائف العقل وبذرة النور وشعاع الروح المسافر عبر محطات تبديل الأقمصة في رحلة الكينونة، فما لطف فإلى عالم العقل يرقي وما كثف ففي عالم الطبيعة يبقى، ومن هنا نفهم ونعرف معنى الحرية وموقعها بلغة العقل دون القيود والأقنعة التي مزقها الزمن وسقطت في مرحلة الكشف الأخير لحقيقة الجوهر الواحد للأديان في مظاهرها المتعددة.
فلا إصلاح ولا تقدم ولا نمو إلا بفك القيود والانعتاق من القشور وملامسة اللب والجوهر بكل صدق ووضوح فأين نحن من الحق والحرية، وما يسمى بحوار الحضارات والثقافات وقد سادت لغة التكاذب والتزيّف والخداع والتعصب والابتعاد عن الحق والممارسات المقنعة بالحرية والديمقراطية التي تحكمّ قبضة الإقطاع المالي والسياسي بالمكاسب والمناصب مما أوصل البلاد والعباد إلى حالة اليأس والبؤس؟ فهذه هي الحرية المادية الخالية من القيم، فغدت اساساً للعبث والفساد والبارزين من خلال حضارة المآسي والكوارث حضارة العولمة المخادعة التي وصلت الى قمة الرقي المادي وقمة الانهيار الاخلاقي ومحاسن الاقوال المموهة لقبائح الافعال.
اما الحرية المعقلنة فهي اساس الإصلاح والتجديد اللذين لا يتحققان إلا بتحطيم قيود التقليد وسلاسل الإقطاع السياسي والديني وامتلاك حرية الفكر بلغة العقل وليس بعاطفة الشعوب العربية والاسلامية والمذهبية التي جعلت الأمة أمماً والشعب شعوباً فلقد تقطعوا أمرهم بينهم زبراً ﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾ ]المؤمنون/53[ وها قد دارت الدائرة وعادت الف البداية للاتصال بألف النهاية ويصح القول ﴿كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا انا كنا فاعلين﴾ ]الأنبياء/104[. والحرية هي الخيار العقلاني للانسان دون إكراه ولا إجبار فالخلق للخالق عزَّ وجل ولا ميزة لأحد على الآخر إلا بما يتحلى به من الفضائل والقيم ومكارم الاخلاق وصدق الإيمان والثقة بالحق مع ذروة الصبر حتى تحقيق النصر، والخلاص فردي بالإخلاص للحق وبصدق القول والعمل وعدم الخوف من بشر مثلنا كي لا يتسلّط علينا. وما الخوف سوى وسخ الباطل الخفي في أعماق النفوس حيث وسوس وطغى وبان بصورة الشيطان الذي يُحَلّ من سجنه ليضل العالم في أربع زوايا الارض "رؤيا يوحنا" ففعل فعله وأوصل العالم المعكوس إلى الإجل المحتوم والنقطة المرموقة نقطة النهاية بعد فترة الإمهال وحصاد غلال مقدمات الأعمال، فهم اختاروا طرقهم وأنا اختار لهم مصائبهم وهذا هو العدل وحرية الخيار في محطة التغيير ﴿فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها﴾ ]الأنعام/104[. وتأكدوا ايها الأخوة انه مهما علا الباطل فالحق يُخمده وان عبد الحق هو الحر فقط والآخرون مستعبدون وهم لا يدرون.
أيها الأخوة المؤمنون فلنجعل لغات العقول أجهزة للتحكم بالقلوب والنفوس لنعرف حقوقنا وواجباتنا ونمارس حريتنا بكل جرأة وإيمان بوجودنا ومستقبلنا عندئذ تسمو الغايات وتسلم النوايا فتنهض الهمم وتتحد بالحق الإرادات فيصبح الإصلاح معراجاً نحو العز والمجد والرقي المنيع.
في الختام لكم الحرية يا اخوة الأديان ومحبة الإيمان نخاطبكم بلغة العقل مع حرية الخيار والاختيار آملين ان نكون من أهل الرضى والتسليم والسعادة والسلامة بعيدين عن أهل الجهل والحسرة والندامة.
نسأل الله ذا العزة والجلال أن يرشدنا دائماً إلى هذا الصراط المستقيم وأن يعيد العالم عن غيّه إلى رشده وأمانته، وان يحجب دماء الأبرار، وان يفك اسر المعتقلين والمختطفين، وتعود الحقوق إلى أصحابها وتعود الأرض إلى مالكها، ويتحقق السلام ويعم العدل.
عشتم وعاشت حرية الفكر في عقولكم وعاش الإيمان في قلوبكم وعاش لبنان مصدر الاشعاع للعالم بنور الكلمة السواء ومحطة لالتقاء الياء مع الاحبة الاتقياء.