اليوم الأول - الجلسة الثانية
البعد الوطني في فكر الإمام الصدر
معالي الوزير الدكتور كرم كرم
السلام عليكم، شكراً دولة الرئيس وشكراً لاتاحة الفرصة لي لكي اتكلم في الإمام الصدر وعنه. عرفت الإمام الصدر من خلال ما كتب ومن خلال ما خطب ومن خلال ما وعظ وقال وعرفته أكثر من خلال عائلة كريمة شدتني اليها اوثق عرى الصداقة منذ أكثر من عقدين من الزمن، عائلة اتسمت بأسمى ما عرفت في العائلات من تواضع على كثير ومن بساطة في قيادة ومع هذا وذاك ثقافة وعلم واسعان تواضع جم وأدب بإحترام.
الكلام على الإمام الصدر لم يعد جديداً إلاّ إذا قيسَ براهن أفكاره وإسقاطها على الراهن اليوم. ذلك أنه يظل جديداً عند المقارنة، بين الذي قاله بالأمس، وما كان يمكن أن يقوله اليوم، لو انه بيننا يقول كلمةَ فصلاً في فصول حياتنا السياسية والوطنية.
علامة المفكر أن يحدس بالحدث، فإذا تخطى حدسه الحدث كان رؤيوياً. هكذا الإمام موسى الصدر كان مفكراً في بعده الإنساني، ورؤيوياً في بعده الوطني.
مؤثر هذا الرَّجُل في من يقرأ كتاباته وخطَبه. مذهل في ما تمكن أن يختزِن، خلال عمره القصير، من زخمٍ في التفكير والتوجِيه، لشدة ما كان فكره مضيئاً على محيطِه وعلى وطنه الكبير.
ايها الاخوة سأتطرق في كلامي عن الإمام الصدر إلى العناوين الآتية: الإمام الصدر ولبنان الوطن – الإمام الصدر ولبنان المقاومة – الإمام الصدر ولبنان الصيغة – الإمام الصدر ولبنان المستقبل.
لبنان الوطن
لبنان قبل موسى الصدر، ليس كلبنان منذُ حضور الإمام فيه. إنه الوطن المتصالِح مع أهلِه، مقيميه والمنتشرين، ومع جِيرانه الأَقرَبِين وأشقائِهِ الأبعديْن.
ميزةُ الإمام الصدر أنه لم يخاطب الشعب اللبناني وحسب، ولم يخاطِب الواقِع اللبناني وحسب، بل خاطب العقل اللبناني، معتبِراً أنَّ للبنانَ ضَميراً واعياً، وعَقلاً حدسِيا ذا قدرةِ اختراق. وهو غيرَ مرةٍ ردد عِبارة: "لبنان... هذا الوطن العزيز، الفريدُ في نوعه، الذي لا نَملِكُ غيرهُ، أرضهُ تعكس السماء، وجغرافياه تمثل التاريخ، وإنسانه قائد طَليعي". بِهذا الحس الوطني تعامَل الإمام الصدر مع لبنان، مستشعراً تأجج النار التي أحرقته.
وكم كبيراً كان إِيْمانه به: "وطناً جديداً لا يبقى فيه محروم، تتجند فيه الكفايات الضائعة، والعبقريات المهملة لرفع شأن لبنان وطنِ العمالقة، والثروات المهدورة، والمناجِم المكتنزة في أرضه وبحره وجوه". ويشتد إيمان الإمام أكثَر، فيدعو إلى "خطةِ عمل لتنفيذ الحلول حتى لا يَكون المنتَصر المسلمون ولا المسيحيون، لا الأفراد ولا الأحزاب، لا اليمين ولا اليسار، بل يكون المنتصر هو لبنان وشعب لبنان" (من نداء له إلى اللبنانيين في 7/1/1976).
من أجل هذا طالَب الإمام بِوضع خطة للبنان "تَضم الفكر ووسِيلة التنفيذ وأسلوب الإخراج". ومن أجل هذا الهدف كوكب حولَه مجموعة مستنيرة، شكلَت فريق عمل راح يدأب على تحقيقِ أفكاره الروحية والوطنية. وانشغال الإمام بقضايا الوطن لم يشغله عن التطلع إلى ما يحيق بِهذا الوطن من أَخطار، في طليعتِها خَطَر إسرائيل. ومن هنا صرخته الدائمة: "إن الأخطار الناجمة عن وجود دولة عنصرية إلى جوار لبنان الوطن، تجعل من كيانِ إسرائيل خَطَراً مستمراً على لبنان". ويدخل أكثر، بعد، في النسيج الحضاري والسياسي فيرى أن "هيكليَة الحكم في لبنان وهيكلية الحكم في إسرائيل تتناقَضان تماما، ولا يمكن مطلقاًً أن تتعايشا".
فكيف لمن لا يرضى بوجود دولةٍ عنصرية بين ظهرانينا ان يقبل بدولة عنصرية عندنا.
لبنان المقاومة
هَكذا كانت نظرته الوطنية والقومية إلى لبنان الوطن، وإلى تبني لبنان قضيةَ العربِ الأولى: فلسطين. وهكذا رأى الإمام أن "بقاء لبنان وقوته وصورته الحضارية وكفايات شَعبِه وقناعات أبنائه ووضعه الجغرافي، وكل ما فيه، إنما هوَ الرصيد الأول لشعب فلسطين والثورة الفلسطينية وهي فرصة تاريخيةٍ أن يتبنى لبنان قضية فلسطين، فيطل على العالم الذي يجهل أو يتجاهل الحقائق المصيرية... وعندما يحمل لبنان هذا المشعل نَشعر أن أساساً جديداً لمستقبلِ الحضارة قد وضع" (من مقالٍ له في "النهار" 8/5/1975).
وهل للبنان أن يشتد إزره ويحمل هذا المشعل الذي اضحى فيما بعد مشعل المقاومة والتحرير إلا بوحدة وطنية متينة تجمع كل أبنائه، وإلا بعلاقة ناصعة صادقة تجمعه مع سوريا وهي مداه الحيوي وبعده الجغرافي وعمقه الحضاري؟
بِهذه الحدة في مواجهة إسرائيل، وفي التوعية على الخطر الذي تمثله، ينبه الإمام إلى أن يتسلح اللبنانيون كما الفلسطينيون والعرب بالحقيقة التي تنقذهم من الضلال الذي تمارسه إسرائيل. من هنا أنه (في21/10/1976)، بعد انتهاء قمة الرياض وقبل انعقاد مؤتمر القاهرة، أطلَق نداءه الشهير صارخا فيه أن "إسرائيل مغروسة في قلب هذه المنطقة، نتيجةَ عمليَة إستعمارية كبرى لم يشهد التاريخ لها مثيلا. فمع تأسيس إسرائيل، تشرد شعب فلسطين إلى خارج وطنِهِ، فاتِحاً جرحاً ما زال يَنزف في قلب هذه المنطقة، ويَخلق تشنجاً فيها وفي العالم كله". ولا يكتفي بتسليط ضوءٍ على الخطر الإسرائيلي، فيعود إلى كلامِه على وطنِه لبنان، لبنان الذي لهُ في قلب الإمام نبض آخَر، جعلهُ يصرخ من قلب الألم إلى اللبنانيين والعَرَب: "أناشِدكم باسم الله والإنسانية، باسم لبنان، باسم المسيح والإسلام، أن تتجنبوا هذا المنزلَق الكبير بالتعامل مع إسرائيل والاستعانة بِها، لأن هذا حرام وغَدر وخيانة". ذلك أن الإمام كانَ، غيرَ مرة، نَبه إلى أن "المأساة اللبنانية الدامية، هيَ فصل من فصول مؤامرة إسرائيل ضد لبنان وشعب لبنان، لأن لبنان - بتاريخه الرسالي ووجوده المتميز ونشاطه الحضاري - كان ولا يزال شوكةً في عين إسرائيل".
هذا هو لبنان الإمام الصدر، الوطن الخلاق، الصغير الحجم، الكبير الإرث، الذي يَغنى ويُغني بِمواهبِه وعطاءاتِه لمحيطه والعالم، فهو الداعية للبنانَ الفكر والحضارة، وللقضيّة اللبنانية التي امتدت إليها قوى الشَر.
الإمام الصدر ولبنان الصيغة
وكان له خطاب واحد وفاقي سلامي توحيدي لشد اللبنانيين، بعضِهِم إلى بَعض، في وطن واحد، وتَحت سَماء واحدة، تظَلل أرضه. في ذكرى عاشوراء (21/12/1977) صَرَخ إلى اللبنانيين: "إن السلام اللبناني هو لقاء تاريخي مَحتوم بين المسيحيين والمسلمين، لأن اللقاء كان تاريخيا مَحتوماً بين الإسلام والمسيحية، خصوصاً عندما تكشف الصهيونية عن أنيابِها، وتؤجج نارَ الطائفية، وتحولُ لبنان مَخازنَ تفجير ومواطنَ دوَيلات طائفية، وتعبَث بتراث المسيحية والإسلام". لَكن الإمام يواجِه هذه العلة بالتوعية على الحقيقة الدينية التي لا رَد لنصاعتها، فيحددها بقوله - "إن ذكرياتنا في عاشوراء هذه السنة، وفي وطننا لبنان على الأخص، تتلو علينا الآيات الكريمة التي تؤكد أن أقرب الناس إلى المسلمين هم المسيحيون. ولذا علينا بالتضحية كي يولَد السلام والحب والقيم والتضامن الوطني التام، فنصون وطنَنا وجنوبنا الحبيب المهدد. ولا خلاص لنا إلا بالتضحيات والسلام والوِفاق الوطني حتى تتحقق القيامة اللبنانية، ونتصدى من خلالها لكل ما يَحول دونها أو يشوهها أو يَخنقها".
بِهذه الرؤية المستنيرة، عالَج الإمامُ الصدر آفات لبنان. عالَجَها بِتبَصر ونضجٍ ونصح وحكمة، فأشارَ إلى الخَلَل، ونبه إلى تجَنب الوقوع في الخطَل، ولم يفقد في مستقبل لبنان الأمل.
علمانيا كان من خلال الدين. منفتحا كان من خلال المذهب. متشددا كان في كل ما يتعلق بالوطن.
بالوطن قلت، وما أسمى ما كانه في قلب الإمام: "إن لبنان في هذه المرحلة بالذات من تاريخ العالم قد أصبَح ضرورة قُصوى للعالم".
ولمن يستغرَب هذا الكلام، يعلله الإمام بِكل ثقة أن "هذا العالَم المترابط، الذي يضم الأديان والتعايش بين أبناء العالم، من أجل استمرار الإنسان في بناء الدولة الكونية الواحدة، إنما هو مرتبط إلى حد كبير، ومتأثر مباشرة، بِنجاح صيغة التعايش في لبنان. لبنان، في هذه الفترة، ضرورة حضارية أكثر من أي وقت مضى. ومن هنا أن التعايش بين اللبنانيين ليس ملكا للبنانيين، بل أمانة في يدهم ومسؤوليتهم وواجبهم، وليس مجرد حق لهم وحسب".
هذا هو مفهوم الإمام موسى الصدر للبنان الوطن، ولبنان الإرث، ولبنان الحضارة التي يكاد أبناؤه ألا يعرفوا كيف يحافظون عليها.
وكأنه خشيَ ألا يكونَ كلامه قد بلغ الهدف الرئيس، فَيؤكد في حواره ذاك مع وفد نقابة المحررين (18/1/1977): "علينا أن نتمسك بوِحدة لبنان، واستقلال لبنان، وانسجام لبنان مع المنطقة، وصيانة هذا الكيان اللبناني الذي هو أمانة للحضارة العالمية".
ولرب سائل كيف يمكِن أن يتمتع لبنان بهذه الصيغة الفريدة، وأن يحدث فيه ما حدث. غير أن له جوابا قاطِعا إذ يقول إن "عدَم مناعة الصيغة اللبنانية أمامَ الذي جرى، لا يمكِن أن يكون اتهاما للصيغة، لأنَ الذي حدث كان يتخطى نِطاق الإرادة اللبنانية. والعوامِل التي عصفت بلبنان، فهزت صيغة 1943، هي أكبر من أيةِ مناعة في أيِ بلدٍ من العالم".
ويبلغ الإمام مدى إفحامه عند قوله: "إذا صنفنا لبنان بالحجم، نجد أنه ميكروفيلم عن الدول الكبرى. ولئلا أن يكونَ كذلك، عليه أن تكون له ميزة خاصة، هي أولاً وأخيراً: التعايش، وهي أرفع من أية ميزة أخرى في تاريخ لبنان وقوة أهله. إن الرسالة اللبنانية هي في هذا التعايش الفريد".
ويختم الإمام الصدر أطروحته الفريدة هذه حول لبنان ودوره في الحضارة الإنسانية ليقول: "منذ ألف سنة، فَتَح اللبنانيون أعينهم فوجدوا جيرانهم من غير دينهم، وأكلوا من عندهم، وضيفوهم، والتجأوا لديهم، وعاشوا في الآلام والأمال، وكان بينهم صلات وعلائق، أكثر بكثير مما كان بين الناس في البلدان الأخرى. لذلك قلت وأقول إن التعايش هو في صميم الحياة اللبنانية، وما نشاهده من ظروف حولنا في هذه الأيام، ليس إلا نتيجة ظروف استثنائية سوف نتغلب عليها بالقوة والإخلاص".
القوة والإخلاص... وما أصدقهما جناحين طليقين تطير بهما رسالة الإمام الصدر إلى العالم، عن لبنان الذي كان الإمام منذ البداية يراه صاحب رسالة مميزة في محيطه وفي العالم.
موضوعنا اليوم "البعد الوطني في فكر الإمام الصدر"...
لبنان العلم والأخلاق – لبنان المستقبل
وقلما شهد لبنان أعلاماً كباراً يَعملونَ على البعد الوطني، ويَجهَدونَ من أجل البُعد الوطني، ويستشهدون في سبيل البُعد الوطني، مثلَما فعل الإمام، من أجلِ أن ينقذ لبنان، ومستقبل لبنان، حتى يكون هذا الوطن على الصورة التي نحلم بها. لبنان التفاعل الحضاري, ولبنان الحوار الحضاري, لبنان احترام الآخر وحرية الآخر واختلاف الآخر وحق الآخر في الاختلاف. إن التحديات التي يواجهها إنساننا اليوم كثيرة والتحديات التي يواجهها وطننا اليوم كبيرة. والبعد الوطني لهذه التحديات في فكر الإمام الصدر كما في فكر كبير آخر السيد محمد خاتمي قائم على العلم والأخلاق.
فإن تأسن العلم عم الجهل وزاد الفقر. وإن انعدمت الأخلاق فسد كل شيء. العلم يفسد والاقتصاد يفسد والسياسة تفسد والحكم يفسد والوطن ينازع.
وكما قال السيد خاتمي إن صوت العلم صامت وان صوت الأخلاق خافت, لكن لأصواتنا جميعاً دويا يهز أعتى العروش. فلنصرخ جميعاً فلنصرخ, وبصوت واحد فلنصرخ: نعم للعلم نعم للأخلاق... هذه هي كلمة سواء نلتف حولها نتمسك بها, من أجل أن نبني الإنسان فينا, لنبني معاً وطناً له صامداً قوياً, ويكون هذا الوطن لبناننا, كما يليق بتاريخه وإرثه وحضارته مجد لبنان.
عشتم وعاش لبنان.
______________________________
تعقيب دولة الرئيس حسين الحسيني
يقدم كما لاحظنا ايها السيدات والسادة، ان الاعتداء جريمة الاعتداء على الإمام الصدر ليست على شخص الإمام الصدر فحسب بل هي اعتداء على لبنان وعلى القيم التي يتمتع بها لبنان وعلى دور لبنان في محيطه العربي والاسلامي.
بإسمكم جميعاً اشكر مداخلات الاخوة الاعزاء حول قضية الإمام الصدر واختم كلامي بأن قضية الإمام الصدر كبيرة وستكبر أكثر وأكثر.