الوصف الجرمي للتغييب - النقيب المحامي ريمون شديد

الرئيسية إصدارات كلمة سواء مؤتمر "كلمة سواء" الثامن: الأبعاد الإنسانية والوطنية والقانونية في قضية الإمام الصدر

اليوم الثاني
الجلسة الثالثة

الوصف الجرمي للتغييب
النقيب المحامي ريمون شديد

أيها الحفل الكريم (*)
قُسط لي أن اتناول في هذا البحث الناحية القانونية للتغييب لا سيما الجرمية منها، كما في القوانين الوضعية الداخلية.

وكانت امنيتي لو خُيّرت، ان اتناول اوجه اعم وأشمل لهذه القضية التي لا تقاس بقضية ما أو توصف وصفاً مشابهاً لها، إذ لا مثيل لهذا الجرم الفظيع الذي إرتكب بحق أحد أبرز خلق الله وأقربهم إليه، هذا الذي ندر ان يجاد بمثله على البشر، وكأنه تعالى أراد لنا من خلال صفيّه ومختاره ووليه الإمام الإمام، ان يجعل نفوسنا في ولهٍ دائم ولوعة مستمرة وحيرة قتالة، كما هي الحال مع من إصطفاهم، وهم قلة، عبر تاريخ البشرية، أنبياء وأولياء، قديسين وحاملي رسالة الخير والهناء وبشرى الخلاص من خلال تمجيد الخالق والحنو على خلقه والعمل على توجيه مؤمنيه لخلاص نفوسهم ونيلهم الرضى والثواب.

لكنني مرغم والحال على ما هي، أن أدلي بالوصف القانوني، وكأني أفرغ دلواً في محيط لأملأه، فكيف إذا كان المقصود محيط الإمام الإمام المحيط الشامل الجامع اللامحدود.

الإمام موسى الصدر، كنا ونحن في شبابنا نسعى إليه بعدما أصبح ظاهرة خارقة في المجتمع، بدءاً من صور حتى بيروت، فما نفوّت فرصة يتكلم أو يحاضر او يحاور فيها الإمام، وفي أي مكان، إلاّ ونكون نحن الشباب في ذلك الحين باكورة رواده نتلقف بنهم ما يتدفق به لسانه ويفيض به جنانه ويجود به عقله النير المنير الهادي، لما لخطابه من وقع لدى اللبنانيين والعرب مسيحيين ومسلمين، وكيف بأسلوبه السهل ونهجه البسيط إخترق الجدران وحطّم الأسوار وقرّب الأديان بعضها من بعض وعلّم الجيل الطالع كيف تكون الوحدة ويكون الإنصهار وكيف تكون الوطنية وكيف تكون القومية، وكيف يكون إختلاف الدين مدخلاً للتآلف والتآخي ولخدمة الإنسانية جمعاء ولتمجيد الخالق الواحد الأحد عزّ وجلّ.

بعد هذه المقدمة الطويلة نسبياً، والتي مهما قيل فيها او معها او حولها لا تفي بالإمام الإمام (1)، انتقل الى الحالة الوضعية للقانون فأتناوله بإختصار من نواحيه المدنية والجزائية.

في القانون المدني
تعرف المادة 33 من قانون الإرث والوصية بقولها: المفقود هو الغائب الذي لا يعرف مكان وجوده ولا يعلم حي او ميت، وتتحدث المواد اللاحقة من المادة 34 الى 38 من القانون عينه، عن المفقود وفقاً لحالات تحددها وكيفية التصرف بإرثه وفيما إذا ظهر حياً في محل محدد محدود، الأمور التي في رايي، لا تهمنا في الوضع الراهن، لأننا كما سبق وقلت تجاه قضية فريدة من حيث النوع والظروف، وليس بقضية عادية تتناول أشخاصاً فقدوا إما في الحرب أو انقطعت اخبارهم بعد غياب (2).
وكذلك تعالج قوانين الأحوال الشخصية، حسب الطوائف في لبنان نتائج غياب المفقود، وكلها تعنى عامة بإرثه وأحوال زوجته وكيفية التصرف بما تركه من أموال منقولة وغير منقولة.

وثمة إجتهادات عديدة للمحاكم اللبنانية تتناول المفقود وأثار غيابه وتعالج نتائجها وكذلك لعلماء القانون اللبناني والفقهاء والمجتهدين أراؤهم القيمة في هذا الموضوع منهم الدكتور صبحي محمصاني أستاذنا رحمه الله، وقد استند في شروحاته الى العديد من المشاهير، مثل الشيخ يوسف الفقيه في الأحوال الشخصية في فقه أهل البيت، في شرح أحوال الغائب والمفقود، والسيد أبو القاسم الخوئي في منهاج الصالحين، والرئيس القاضي عفيف شمس الدين في "المصنف في قضايا الوصية والإرث والأحوال الشخصية" والبرفسور ابراهيم نجار في كتبه القيمة الى ما هناك من دراسات وإجتهادات معمقة تتناول الأحوال الناجمة عن غياب المفقود في مجالات الإرث والأحوال الشخصية ونتائجها المادية والمالية.

اما في قانون العقوبات، أي الناحية الجزائية للخطف والتغييب فإن قانون العقوبات عالجها في الفصل الأول من الباب السابع. كما عالج الفصل الثاني من الباب الثامن – البند الأوّل حالات حجز الحرية والخطف (3) ولن أتطرق الى تفاصيلها.

اكرر القول هنا، بان هذه الحالات وإن بحثت فإنها تفيد حالات عادية لأناس عاديين وليس بوارد من نجتمع اليوم وبعد اكثر من ربع قرن على تغييبه ولا يزال شغل الناس الشاغل وهمهم الملازم وهاجسهم المستمر، ماليء دنياهم، ساكن ضميرهم، لا يتصورونه إلاّ عائداً إليهم بهامته الوجاهة وعلى ثغره إبتسامة المسامح للمسيء، اللهم إذا عاد المسيء عن إساءته، وإستغفر ربه، وتاب امام الناس عما صنعت مكيدته من فعلة شنعاء استنكرها العالم وما يزال بإنتظار الأفراج عن الإمام الإمام، ليعود يرعى خراف الرب بما أوتي من وحي وتقوى وعلينا جميعاً سلام الله (**).

________________________

(*) تستحضرني اليوم حادثة التقيت خلالها بالإمام الصدر للمرة الأولى طبعاً كنت احضر محاضراته. كان ذلك في بناء كنت اسكن احد طبقاته في شارع محمد الحوت وانا انتظر المصعد كي الجأ إلى بيتي واذا ببابه ينفتح على مارد يشع منه نور استثنائي وعلى ثغره ابتسامة فيها من الحنان والرقة والوداعة ما عدت في حياتي لمحت مثلها، فبادلني هو بالتحية فتقدمت اليه وكان بيننا حديث ولم اعد القاه الا من خلال المحاضرات مع الاسف.

(1) لانه - الإمام كما قلت محيط لا يسبر غوره الا خالقه وكان مما يعطيه لنا زخماً يساعدنا على تفهم وتفاهم بعضنا البعض وعلى العيش بسلام ومحبه، وعلى خلق مجتمع جديد هو كان الهادي والداعي والساعي اليه والعامل عملياً على انشائه وهذا لم يرق للجميع وكان ما كان.

(2) وهذا لا يعني بأنني استصغر من يغيب في مثل هذه الظروف معاذ الله الإمام كان همه المستضعفين وهمه الاهتمام بعامة الناس كل الناس، ولكن شئنا ام ابينا قضية الإمام قضية فريدة مختلفة تتعلق بشخصية فذة استثنائية لا يولد مثلها كل يوم لكي نعالجها من خلال قوانين وضعية ضيقة وضعت لحالات ارثية ليس المجال للبحث فيها أو للبحث بما يتركه الغائب في عائلته.

(3) عندما وضعت في قانون العقوبات اللبناني لم يكن في ذهن المشترع انذاك او من حضَّر تلك القوانين بأن الحالة في لبنان ستصل إلى ما آلت اليه من جراء هذه الحرب العبثية التي اريدت لنا ولم نردها نحن. لم يعالج مواضيع مماثلة بشكل رئيسي انما جاءت المعالجة من خلال معالجات عادية للخطف وما ينتج عنه او لحجز الحرية. ولكن تشديد العقوبات في هذا المجال الذي حصل من خلال التشريعات الصادرة اثناء الحرب جعل من هذه القضية أو من القضايا المماثلة للتغييب والخطف في لبنان، قضايا يشدد القانون فيها العقوبة.

(**) من هنا اتوقف هنا ولا اريد ان استرسل اكثر فاكثر لا سيما وان النواحي التي كنت اود التحدث عنها هي نواحي القانون الدولي وهي النواحي المستجدة اليوم على الساحة العالمية وعميدنا الكبير هو ادرى الناس بها، لا سيما في تطور القوانين ومن جراء المحكمة الجنائية الدولية التي انشئت رغم انف الذين لا يريدونها من المستكبرين في الارض اليوم، ومن خلال النقابة الدولية للمحامين التي كما سبق واشار حضرة العميد اتيح لي ان انتخب لها وان ادخل فيها ثلاثة من زملائنا العرب ايضاً في مجلس نقابتها، وان انتدب للعالم العربي. كنت اود ان ابحث في هذا الموضوع غير ان زميلنا الدكتور جورج آصاف وزميلنا الدكتور حسن الجوني سيتكلمان بهذا الموضوع وسيكون لهما حتماً الكلمة التي تأتي ثمارها تكراراً. اقول نحن في ولهٍ ليعود الإمام وحتى يعود الإمام لا يهمنا مستوى هذه القوانين لان عودته انشاء الله ستعيد الينا الثقة، لان لبنان سيستعيد دوره، دوره القائم على هذا التألف والتأخي الاسلامي المسيحي. لان لبنان رسالة كما قال قداسة الحبر الاعظم عنه وليس بدولة عادية وهو ضرورة لنا جميعاً ضرورة للعرب والمسلمين والمسيحيين. فلنعمل جميعاً على ان يبقى لبنان واحداً واحداً موحداً بعيداً عن الطائفية والمذهبية وبعيداً عن كل ما يفرق لاننا اصحاب رسالة واصحاب مدنية واصحاب تراث واصحاب تاريخ ولا نريد ان يقال بأن ارضنا اصبحت او ستصبح يوما ما مقراً لتصادم حضارات فإن التصادم غير موجود الا في افكار الذين يريدون شراً للبشرية جميعاً. وتكراراً شكراً لكم وشكراً على اختياري على هذه المنصة، وهذا تكريم لي واشكر من تولى هذا الموضوع اشكر العائلة واشكر كل من كان له الفضل في هذين اليومين العظيمين وشكراً لكم.