اليوم الثاني
الجلسة الخامسة
الإمام موسى الصدر
سعادة الدكتور كلوفيس مقصود
أيها الحفل الكريم
يثير موضوع تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه كثيراً من المشاعر، ويعيد إلى الذاكرة نشاط رجل جمع إلى العلم النضال، وإلى الإيمان الممارسة حتى استولى بكلمته وبفعله على خواطر الكثير ممن عرفوه، أو تابعوه، أو التقوا به. ولقد حظيت بالتعرف على سماحة الإمام موسى الصدر ورفاقه في مطلع السبعينات، وأدركت من نشاطه كما من خطابه على الساحة اللبنانية أن البلد قد برز فيه رجل مفكر يأبى أن يجعل فكره إلا أداة لخدمة قضايا المجتمع، أو أن يحصر نشاطه في حدود من يشاركوه مواطن الاعتقاد. فقد جعل الإنسان مناط نظره فأتاح له نوافذ الانفتاح على كل الجماعات. ولقد أعطت الهيبة من موقعه، ومن تفاعله مع كل الناس، ومن تبنيه لقضاياهم القوة لنشاطه وجهده الذي تجسد في قيام حركة المحرومين. ولأنه كان ذلك المفكر الذي نزل إلى مشاكل الناس ولم ينتظرها حتى تصعد إلى برجه، فقد استطاع أن يكشف الغلالة التي تتستر بمظاهر البحبوحة، وأشكال الغنى عمق ظاهرة المحرومين في المجتمع. وقد كان عمله ترجمة لما كان يعتقده أنه إذا كان ينبغي على الحاكم أن لا يقيم سدودا بينه وبين الناس تحجبه عن رؤية مشاكل الناس وإدراك معاناتهم، فإن ذلك الفعل أليق وأكثر ضرورة من أهل العلم الذين تشرئب أعناق الناس إلى آرائهم وحكمتهم وقيادتهم. كما أدرك الإمام موسى الصدر بثاقب نظره أن الحكومات عاجزة عن أن تدفع عن الناس بلاء العدوان الذي ينتهك كل الحرمات، ويصول في المنطقة دون رادع حقيقي، فعمل جاهداً من أجل غرس فكر المقاومة الذي يجد عمقه في كل الوطن اللبناني. ولقد نضجت رؤيته، وتطور فكره إلى أن أصبح سياسة، ثم تمكنت هذه السياسة حتى أصبحت إلى حد كبير سياسة الدولة نفسها.
لقد تعرفت على الإمام، وتكرست على إثرها علاقة دائمة من تبادل الآراء وتفاعلها. وقد وجدت فيه كل الحرص على أن يصل إلى كل الأطياف الفكرية، والدينية من خلال الحوار الفعال. ولقد تجلت قناعته واندفاعه نحو الحوار في الخطبة الشهيرة في كنيسة الكبوشية في باب ادريس حيث نقل الحوار إلى آفاق أعم، وأبعاد أعمق، يضم تحت أجنحته قضايا المجتمع اللبناني الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية، كما تجلت في مفاهيم رفع لواء المحرومين، والمقاومة، والتعايش. لقد كان رجل فكر عرف كيف يزاوج بين رفع البندقية دفاعاً عن الوطن، ورفع المعول بناء وتشييدا لمؤسساته التعليمية والصحية والاجتماعية.
وقد كان وقع فكر ونشاط سماحة الإمام موسى الصدر ورفاقه عميقا على المستوى العربي، حيث أثار رصيده الفكري والعملي اهتماماً لدى كثير من الأوساط الفكرية والسياسية العربية في هذه الظاهرة الفكرية المتدينة. وهي ظاهرة إيجابية كما حظيت بالاهتمام حظيت بالتقدير. ولذلك يدفع ما حصل من تغييب للإمام موسى الصدر إلى طرح سؤال لم يُجَبْ عليه بعد. وحيثما يفتقد الناس إلى الإجابة تبرز الإشكالية. وفي حقيقة الأمر فإن هذه الإشكالية هي أساس لفتح موضوع كل التغييبات في كل الوطن العربي. ولعل مسألة تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه التي تحتاج إلى أجابة دليل راسخ على تفشي ظاهرة عدم المسائلة التي تعم وتشيع في كل بقاع الوطن العربي. ففقدان المساءلة التي ترتب غياب الإجابة لا تنحصر في تغييب شخصية فكرية سياسية فذة تتعلق بها أفئدة ملايين من الناس، كما أنها لا تقتصر في تغييب الكثير من العرب في أصقاع عربية كثيرة بل هي تتعدى ذلك إلى أمور أكثر. فمبدأ المساءلة مفقود في جل القضايا الجوهرية التي تؤثر تأثيراً عميقا على حياة الملايين العربية المنتشرة في جوانبها المختلفة، تؤثر على نهضتها، تؤثر على معيشتها، وتؤثر على بقائها وديمومتها. فأين المساءلة في السلوك العام للجماعات وللحكومات على حد سواء، وأين المساءلة في مواقف حكوماتنا من التحدي الاسرائيلي والصهيوني، واين المساءلة في اختيار البعض انفسهم ممثلاً لإرادة العرب في أخطر قضاياهم، عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وأين المساءلة من الهرولة إلى التطبيع، وأين المساءلة في انتهاك أبسط حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها؟ وحينما نفتقد إلى المساءلة فمعنى ذلك أننا نعمل بإرادتنا على تغييب ليس قضايانا فحسب بل تغييب مصائرنا. فسماحة الإمام الصدر ليس إلا رمزاً لتغييب الأمة العربية. حينما يغيب الإمام الصدر فهو تغييب لفكره ولنشاطه عن التواصل مع الناس وعن التأثير في الأحداث. وحينما تغيب الأمة العربية، فهو تغييب لإرادتها عن الفعل، وتغييب لرأيها عن القرار.
ولعل تغييب سماحة الإمام موسى الصدر ورفيقيه، وتغييب الكثير من العرب إنما يعكس حالة التغييب الكاملة للأمة العربية. فالأمة العربية حاضرة بوجود الناس لكنها غائبة في صنع القرار، وفي صنع الأحداث، فهي تُمْنع من الأول، ولا تُمَكن من الثاني.
ومن هذا الموقع، فإن عملية المساءلة في موضوع تغييب الإمام موسى الصدر ينبغي أن تكون منطلقاً لبدء عملية تصحيح جذرية في عملية التغييب الشاملة على كافة الأصعدة العربية.
أصحاب المعالي والسعادة، سيدي الرئيس
لقد حصل في موضوع لوكربي، كما في موضوع الطائرة الفرنسية التزام وفعل بتنقية الموضوعين، وهذا يقودنا إلى المساءلة مرة اخرى لماذا حصل ذلك؟ ولم يحصل ما يجب ان يحصل؟ ولماذا لا يحصل تنقية للموضوع في مسألة تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه؟ وإذا كان ذلك يحصل لأن هناك مراجعة متواصلة مستمرة مكثفة، لأن هناك رغبة في تنقية الأجواء على الصعيد الدولي، فإنه أحرى بنا أن ننقي المناخ العربي، وأن نبدأ في الإجابة على المساءلة الخاصة بتغييب سماحة الإمام موسى الصدر ورفيقيه انطلاقاً منها للإجابة على تغييب كل القضايا العربية. حينذاك نكون قد أعدنا ليس فقط الأمور إلى نصابها الصحيح، وإنما نكون قد بدأنا نخطو نحو بناء علاقة سليمة بين المجتمعات العربية والدول العربية حتى نصون الدولة العربية من المخاطر التي بدأت تحيق بها، وقد تؤدي إلى إضعافها، أو تلاشيها، أو تفتيتها او تفكيكها. أليست هذه مخاطر وجودية جدير بصنّاع القرار أن يجعلوها جوهر توجههم من أجل مواجهتها؟ وكيف يمكن أن يتحقق ذلك دون إشراك المجتمع الاهلي والمدني في القرار وفي الفعل الذي يتعلق بحياته ونهضته وتطوره؟
نحن في حاجة في هذا المنعطف التاريخي والمصيري إلى إنهاء قضية تغييب سماحة الإمام موسى الصدر ورفيقيه. فالقضايا التي جعلها الإمام الصدر موضوع نظره ومحل جهده والتي التقت عليها فئات المجتمع المدني ينبغي أن تكون في صدارة أولويات الدول العربية السياسية، وأنى لها أن تكون كذلك إذ لم تقم بتنقية قضية تغييبه، وتنقية قضايا المغيبين. لقد آن الأوان أن ينزل صانع القرار من برج الوهم أن الأمور الجارية ستبقى على جريانها. فلقد تبدلت الأحوال على كل صعيد قطري، أو إقليمي، أو دولي، وهي لا يمكن إلا أن تقصفنا بعواقبها. وخير لنا أن تجري العواقب منضبطة بإرادتنا ومحكومة بخطواتنا، بدل أن تباغتنا كما حصل في العراق فتقلقل أوضاعنا، وتزلزل كياناتنا. ولقد كان هذا دأب سماحة الإمام موسى الصدر، فلم يكن شأنه قلقلة الأوضاع، ولم يكن رأيه إلا تغييراً من الداخل يحافظ على التوازن، ويصون المؤسسات. غير أنه كان يدرك أن التغيير المضبوط بالسياسات لا يتأتى بالمنة بل يحصل حينما تتحرك قوى المجتمع الفاعلة لتنبه صُناع القرار أن التبديل ضروري.
وفي هذه المرحلة العربية الحرجة التي تمر بها أمتنا ما أحوجنا إلى حكمته التي كانت ترى التغيير من دون تدمير، وإلى شجاعته التي قامت على أن "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وإلى نزاهته حينما كان يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الآخرين. ونحن في أشد الحاجة إلى حسه المرهف للأولويات، فقد كان البشر، رفاهيتهم وأمنهم، رأس الأولويات. فهي أكثر عند الله أجراً من مجرد ممارسة طقوس وبناء معابد. ولا عجب أن كانت المقاومة ليحمي كرامة الناس، وأن كان الدفاع عن المحرومين لإزالة الهوان عنهم شغله الشاغل، وعمله المتواصل. تلك هي القيم العليا التي ينبغي على كل رائد لأمته أن يجد في طلبها، صيانة الإنسان في حياته وفي مسكنه وفي معيشته. ولم يتخلف مسعى الإمام يوما على تلبية ذلك.