كلمة الخير هي الأقوى - سماحة الشيخ الدكتور محمد رشيد قباني

الرئيسية إصدارات كلمة سواء مؤتمر "كلمة سواء" السابع: الذات والآخر في الاعلام المعاصر

اليوم الأول - الجلسة الافتتاحية

سماحة الشيخ الدكتور محمد رشيد قباني،
مفتي الجمهورية اللبنانية
يمثله سماحة القاضي الشيخ محمد دالي بلطه

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. أحمده وأستعينه، وأشهد أن لا إله إّلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيدنا محمداً عبده ورسوله.

أما بعد، أيها الحفل الكريم،

فإن الذات والآخر ثنائية صدامية منذ الأزل، سطر التاريخ الكثير من فصولها أدركها من حضرها، ثم انتشرت رويداً رويداً حتى أدركتها البشرية جمعاء عبر الوسائل المتوفرة في كل زمان، إلى ان تطورت وسائل الإعلام إلى ما هي عليه الآن، فأصبحت الصورة ماثلة امام العالم لحظة بلحظة. كان الجميع في ساحة الصراع ينظرون إلى مجرياتها، فأصبحت هذه الصورة حقيقة مشاهدة بعد أن كانت بالنسبة إلى العالم خبراً منقولاً أو مسطوراً، وكأن عناصر الخصام والنزاع أكثر بكثير من عناصر التفاهم والتلاقي. لقد بدأت هذه الثنائية مع وضع البشرية أول خطواتها على هذه الأرض، فكانت حادثة ابني آدم التي يقصها علينا القرآن الكريم، صداماً بين الذات والآخر لاختلاف البواعث النفسية والمشاعرية، حيث اختلطت ملكات الخير التي تيسرت لتستوعب البشرية، مع نزعات الشر التي ضاقت على سالكها فضيقت عليه البصيرة حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وما زالت هذه المنهجية مستمرة حتى يومنا هذا مع اختلاف الأشخاص والأسماء والصور والوسائل.

أو لم يكن ابن آدم القاتل قادراً على احتواء تلك الأزمة لو انه سلك طريق أخيه الميسر له بأبوابه العريضة المفتوحة امام جميع السالكين؟ فلماذا حصل هذا؟ إن الجواب عن ذلك وفهم واقع ذيْنك الولدين يمكن أن ننطلق له من خلال فهم ما يجري حولنا اليوم من أحداث ومشاكل حيث تغلب أصوات الصدام على أصوات الحوار مع الآخر. إنها حرب الذات من اجل مصالحها وماديتها وليس من اجل إرساء القيم والمبادئ.

إننا لا ننكر الآخر، فهو الذي يشكل مع الذات الوجود بأكمله، فإذا كان الله سبحانه وتعإلى قد جعل اختلاف الكلام واللون آية من آياته في قوله: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم﴾ [الروم، 22]، وهما شكلان خارجيان للإنسان، فكيف بفكر الإنسان وهو سر وجوده وهو فضله وجوهر الإبداع فيه؟ ألا يكون أيضاً آية من آياته العظيمة حيث لم يكن الإنسان نسخاً متعددة من أصل واحد، فهل يكون سر الوجود وجوهر الإبداع سبباً في هذا التناحر؟

أيها الإخوة الكرام،
لا بأس أن نقوم دوماً ودون يأس، بإطلاق كلامنا الداعي إلى الخير والتلاقي، بل هذا من أوجب الواجبات علينا، فكل كلمة للسوء يجب أن تكون حافزاً لنا لكلمة جديدة في الخير مع الآخر لا باعثاً للإحباط والاعتزال، إذ يجب أن تكون هذه الكلمة هي الأقوى، ولذلك كانت رسالات الرسل وجهادهم.
إننا لا ننكر وجود الثقافات المختلفة ولا نقر هذا الاختلاف سبباًً للتباعد، بل دافعاً للحوار. ولا شك ان هذا الواقع المنشود لا يتوفر إلا بوجود النفوس النوعية والهمم العالية التي لا تنحدر إلى سلوك الانفعال، بل تتمثل قول ابن آدم وهو يرد على أخيه المتوعد بالقتل: ﴿قال إنما يتقبل الله من المتقين* لئن بسطت اليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني اخاف الله رب العالمين*﴾ [المائدة، 27،28]. وهذا ينبغي أن يكون دورنا نحن في هذه المنطقة، فهي مهبط الوحي ومبتدأ الرسالات، أمام سياسة المادية والمنفعة والمصلحة، حيث لا قيمة للآخر في هذا الخضمّ. فهل يقوم إعلامنا بأداء هذه الرسالة في ظل حالة ما يبدو بالانقطاع بين الشرق والغرب؟ إن إعلامنا، أيها الإخوة، يعتريه الكثير من التقصير في هذا المجال، فلو تنقلت بين شاشات التلفزة في أوطاننا عبر الفضائيات التي قرّبت بين البشر، لوجدت الكثير من برامج اللهو والتسلية، وندرة البرامج الهادفة التي تعرض لقضايانا وما نجابه من تحدٍ وهجمات شرسة. وإننا في هذا المجال نطالب بالحد الأدنى من الممكن. فماذا لو قامت فضائياتنا بتنسيق فيما بينها بتوجيه إعلام موحد هادف يشرح وجهة نظرنا للعالم بشأن ما يجري من حولنا، ولو في فترة ما بعد منتصف الليل، فهو يمثل بالنسبة إلينا وقتاً ضائعاً، فأمتنا تخلد للنوم والراحة، وهو وقت حيوية إعلامية بالنسبة إلى الغرب نظراً لفارق الوقت، وذلك حتى نصد هجمة الإرهاب عنا هذه الهجمة التي يجند لها الإعلام الغربي طاقات كثيرة بشرية ومادية، دون التلهي بمجرد التسلية او التركيز على الآخر لمجرد اختلاف الرأي، أو من منطلقات طائفية بغيضة. فإننا نلمس أن مقياس القبول أو الرفض هو لمجرد الشخص وليس لما يقوله الشخص. ولا بد لنا ان نشير إلى نقطة جوهرية عندما نتكلم عن الذات والآخر في الإعلام المعاصر، نظراً لخطورة الإعلام في تكوين الرأي وإيجاد الاقتناع خاصة مع هذا الآخر، الذي أتكامل معه مجتمعياً أو وطنياً او قومياً. فقد نختلف في الوطنية فيما لها أو عليها، ولكن لا يمكن ان نعتبر أن تبني الخيار الإسرائيلي هو رأي يجب ان يناقش بكل روية واحترام كأحد الخيارات المطروحة ضمن دائرة الوطنية. فتبني هذا الرأي هو خروج عن الوطنية أساساً. وكذلك قد نختلف حول العروبة في ما لها او عليها، ولكن لا يمكننا أن نعتبر ان تبّني الخيار الأميركي بضرب العراق، مهما كانت الأسباب خياراً من ضمن الخيارات المطروحة في الساحة العربية، فهذا أيضاً خروج عن اطار العروبة، فالولايات المتحدة الأميركية تخطط لاستباحة الأرض والثروات، وتحتفظ لنفسها بحق تصنيف الناس والدول، غير آبهة بالأمم المتحدة ولا بمواثيقها ولا بقراراتها، فتجعل هذا إرهابياً، وتصف الإرهابي الحقيقي شارون بأنه رجل سلام، فتجيز له حق الدفاع عن نفسه، بينما تصف شعب فلسطين الذي شُرّد من أرضه ووطنه ويناضل من اجل استعادة حقه، بالمعتدي، وتحمّله وزر ما يحصل في المنطقة.

أيها الإخوة الكرام،
من هنا، وتحت هذا العنوان الكبير، نتوجه إلى الولايات المتحدة الأميركية، انطلاقاً من مبادئنا وعقائدنا، الا وهي قوله تعإلى: ﴿يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا﴾ ]الحجرات،13[، وليس لِتناحَروا، ولكن لتعارفوا. فهل هي مستعدة للتعارف والتحاور، أم أنها مستمرة بقرع طبول الحرب وممارسة سياسة الغطرسة والكيل بمكيالين وما يتبع ذلك من ويلات ودمار؟ وعند ذلك فهي من سيتحمل عواقب الأمور، إذ هي الأقوى اليوم، والأقوى هو من يتحمل مسؤوليات ما يحدث من فعل وردة فعل، وهو الاقدر على الاحتواء ومعالجة الأمور، إن قام بما يتوجب عليه من مهام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.