اليوم الأول - الجلسة الافتتاحية
سماحة الشيخ بهجت غيث
شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
باسمه تعالى دائماً نبدأ في أول السطور،
وعليه نتوكل، وبه نستعين في جميع الأمور.
السلام عليكم أيها الإخوة المؤمنون،
أصحاب الدولة والسعادة والسماحة، والمعالي والفضيلة،
الحضور الكريم المجتمعون في مؤتمر "الكلمة السواء" السابع إحياءً لذكرى الإمام المغيّب الحاضر دائماً في قلوب محبيه وفي مقدمتهم السيدة الفاضلة رباب الصدر ومعاونيها في مركز الأبحاث والدراسات، للتركيز، هذه السنة، على الذات والآخر في الإعلام المعاصر وصورة العصر لهذا العالم الغارق في دوامة العولمة والتغيير السريع بعد الألفين، حيث شاءت محطة القدر امتحان البشر، وتسابقت الأمم لتعاصر بقية الهمم، واهتزت الكرة الأرضية على صدى وقع طبل العولمة والزّمارين الكبار، والصغار المصفقين له، هنا وهناك، وفي كل مكان من هذه القرية الكونية، التي أصبحت ساحة فوضى يحتدم فيها الصراع والنزاع، وتشتد المعاناة، وترتفع الآهات من كل حدب وصوب، وخصوصاً من فلسطين، والقدس مرتكز نقطة دائرة القدر الذي تقدم فيها سره، وفيها تأخر. وتنشط وسائل الإعلام وتتسابق لالتقاط الصور وإشباع الأعين وملء الأسماع، والجلاد يذبح الضحية والكل يضحك ويتفرج ويبتسم، وكأن الأمر لا يعنيهم. إنه حقاً زمن الغلبة وضعف الهمم، والتنازل عن القيم، واشتداد ظلمة آخر الليل، إلى ان يأتي بزوغ الفجر، والتحلي بالصبر لترتخي أيدي الشر المسيطر، وتنتهي مصادقة الجن للجنون وزمن الشيطان الفالت من سجنه ليضل الأمم في أربع زوايا الأرض، فالرسم مصور والقدر مسجل والابتعاد عنه غير ممكن. ومن حسن مفارقات القدر أن لكل قوة عاتية مصحوبة بالأذية والفعل الرديء نهاية مأساوية حتمية ومصير ذليل.
والحق يُمهِل ولا يهمِل. له صنيعه وتدخل لحسم الأمور وإسقاط سقف الباطل على رؤوس أصحابه واهله، فلا توجد قوة تعلو على قوة الحق ولا سلاح أعظم وأقوى من سلاح الإيمان والصبر والثبات في ساحة المواجهة كيفما تقلبت الظروف ومالت الموازين. فالخوف من الشر هو الشر بعينه، وهو الذي يمد الأشرار بالقوة وينشطهم بـ"فيتامين" الاستفزاز والاستمرار في السيطرة على أصحاب الحقوق، الضعفاء بإيمانهم وبسلاحهم المادي والمعنوي، فلا تراجع مع الحق وإلى الحق حتى يتحقق بإعانة السميع المجيب، المحقق طلبات أصحاب القلوب الطاهرة، أبناء النور، أصحاب الصلة الروحانية، والنعمة الأبدية، والقوى النورانية، والحكمة الإلهية.
هذا ما حصل في لبنان بالأمس القريب، وكان عبرة لمن يتفكر ويعتبر، للقريب والبعيد. والآتي صورة مختلفة تماماً عن الماضي، فالصبر والثبات دائما يحققان المعجزات، والإيمان الصادق بالحق، حق الإيمان، هو الحق الذي يحرر الإنسان من الأوهام، ويعطيه قوة فينهزم امامه شبح الباطل ويتلاشى، مهما كان كبيراً وخطيراً.
وساعة التجربة لا بد منها في تقدير العزيز الحكيم، لإثبات المواقف واختبار القوى والأسلحة. ومن هنا يميل ميزان القوة للسلاح الغربي بكل أبعاده وأشكاله وأنواعه الحديثة، ويسيطر على الساحة الكونية، ويخيف الآخرين ببأسه وسطوته ومظاهر قواه المادية المتفوقة كماً ونوعاً، بما فيه سلاح الإعلام المعاصر. فالشرق العربي، الإسلامي عموماً، نسي سلاحه الروحي الحقيقي، ودخل في لعبة التقليد، وفخ الصهيونية العالمية، وقبِل الصورة المشوهة التي مسخته بها، ولم يتنبه لاستغلال الإعلام الصحيح في رسم واقع صورته الحقيقية، واقتصر على رد الاتهام في سجال خاسر مع الغرب، فزاد الطاغي طغياناً، ولا يصنع الطغاة إلاّ العبيد... ومن خشي من بشر مثله تسلّط عليه.
من هنا كان سلاح الإيمان بالحق هو دائماً سيد المواقف وقاعدة الثبات وقوة الاثبات، وكان نموذجاً ورسالة من لبنان لكل أصحاب الإيمان في كل مكان. انتصر الحق وزهق الباطل، وحفظت الأمانة وانهزم أعوان التآمر والخيانة، وأثمرت المقاومة والوحدة الوطنية والتعاون الأخوي اللبناني السوري، وتدخلت القدرة الإلهية، وحدثت المعجزة، وتحررت الأرض المباركة وعادت لأصحابها، وزال رجس الاحتلال عن أكثرها وبقي أيسرها. وسيزول بإذنه تعالى عن قريب. فالحق لا يثبت ولا يتحقق من دون دورة الحياة، والحياة ليس لها قيمة من دون الشعور بقوة الإيمان. وقوة الإيمان تستيقظ بقوة وتزغرد في صدور المؤمنين أهل اليقين، أصحاب الصراط المستقيم، إخوة الأديان وقوة العصر والزمان.
في زمن تحقيق الذات وحدوث المعجزات يتساءل العالم عن سبب الانقلاب المفاجئ في موازين القوى، وعن النبأ العظيم. تحررت القدس وعادت لأصحابها بقدرة العزيز الجبار، يُعز من يشاء، ويذل من يشاء له، الملك من قبل ومن بعد. هذا ما حصل، وسيحصل، برعاية العزيز القدير. ومن هنا نحيّي روح الإيمان في صدور المقاومين المتمسكين بالحق في فلسطين والجولان وجنوب لبنان، وفي كل مكان. ولا عجب من اتهامهم بالإرهاب في سياق محاولة إرهابهم وإحباطهم وسلب حقوقهم، وطمس هويتهم، وإخماد انتفاضتهم في وجه الطغيان والعدوان، فالمؤمن الحقيقي لا يخاف من المحنة بل يعتبرها منحة، ويحمد خالقه في جميع الأحوال، ويثبت مع حقه ويطالب به بقوة حتى يحصل عليه ويحققه، ولا يهتم بتسلسل الأحداث مهما علت وتيرتها وخفت، فهي أولاً وأخيراً بيد المحدث وله طريقته ودوّامته، وللمؤمنين المحقين قوة التحمل والثبات والصبر حتى تحقيق النصر. من هنا دعوتنا ودعاؤنا بهذه المناسبة للإعلام وللإعلاميين في العالم العربي والإسلامي في هذا الزمن الصعب، للتركيز على هذه الزاوية المظلمة من الساحة العربية والإسلامية، لإيقاظ روح الإيمان الحقيقي المعزز بالثقة واليقين، المرتبط بجوهر الدين. فالثقة مصدر التركيز في عصر ضجة العلم وصمت المعرفة. ولا يفسَّر الصمت وعدم الضجة والصخب الإعلامي والثرثرة التقليدية، وما إلى ذلك من محاولة غسل الأدمغة والاستخفاف بفهم وتمييز الجماهير، والمراهنة على تلبيس الأقنعة وتجميل الوجوه بمكياج الإعلام المصفق للأنظمة والأشخاص والمسوّق لكل انواع التفاهات والملوثات، تماماً كتسويق السلع الفاسدة. فالحقيقة أجمل - لا يفسر الصمت وعدم الخوض في تلك الوحول والمستنقعات بالضعف، إذ لا يتم التصريح والكلام المتواصل والسرد الممل، بل يسمى هذا شدة موقف ونوع من الفهم العميق لمجرى العصر والاختصار دواء. والإعلامي الناجح العميق الفهم المزود بسلاح الإيمان والقوى الروحانية والأحاسيس الوطنية الصحيحة واليقظة العقلية يكون كالنحلة التي لا تعشق إلا الأزهار الشذية وتجني العبير والرحيق المحيي، وليس كالذبابة التي تهوى الجروح والقروح وتنقل الملوثات وتؤجج الخلافات وتكون سبباً لزيادة الآلام والمعاناة. والإعلام سلاحٌ فعّال يؤذي صاحبه إن لم يُحسن استعماله. وسلاح المعرفة هو الأقوى في كل مجال. والحياة بلا معرفة كالموسيقى بلا إيقاع. وأسمى قمم المعرفة هي المشرفة على معرفة الذات الحقيقية في مرايا القلوب الصافية، حيث السر العميق والقوى النورانية المرتبطة بالمحبة الإلهية التي تحرر الإنسان بمعرفة الحق، من كل أوهام الباطل، فلا يخشى إلا ذنبه ولا يعبد إلا ربه. لن نتوسع أيها الإخوة كثيراً بالحديث عن الأحداث الجارية على الساحة المحلية والإقليمية والعالمية فهي تتحدث عن نفسها، ويحبس العالم أنفاسه في هذا الوقت، ويعيش ذروة فترة القلق وعدم الاستقرار والشعور المتزايد بالأخطار المحدقة بمصيره ومستقبله. ولنا بحمد الله النصيب الأوفر من هذا الشعور في لبنان والمنطقة. هذا هو العالم اليوم يعيش قدره الذي صنعه لنفسه في قريته الكونية، وسلّم قيادة العربة للأحصنة السوداء، مع الأسف، وضاع في أنفاق ومتاهات حضارة العولمة، وتعمّق في نزعة النفس الأمارة بالسوء، ونسي الحق، فكان الحق، له ناسياً، ماحقاً، كما قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ﴿وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميراً* وكم اهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً﴾ صدق الله العظيم [الإسراء، 17،16].
ودعاؤنا لكم ولمؤتمركم ايها الإخوة بالنجاح وإضاءة شموع الإعلام المتحرر المتنور، الواعي لخطورة المرحلة وصعوبة العبور على جسر المعرفة، من عتمة آخر ليل أشباح الظلم والظلام إلى فجر ابناء النور. والصبح بمشيئته قريب، انه تعالى سميع مجيب.
عشتم وعاشت ذكرى الإمام الصدر في صدور كل الطيبين، وفي نفوس المؤمنين.
وكل عام وكل مناسبة وأنتم بخير.