الحوار وتوليد الحقيقة - نيافة الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير

الرئيسية إصدارات كلمة سواء مؤتمر "كلمة سواء" السابع: الذات والآخر في الاعلام المعاصر

اليوم الأول - الجلسة الافتتاحية

نيافة الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير
بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق
يمثله سيادة المطران بولس مطر

ممثل فخامة الرئيس،
دولة الرئيس،
ممثل دولة الرئيس،
أصحاب السماحة والسيادة والفضيلة،
أصحاب الدولة والمعالي والسعادة،
أيها الإخوة والأخوات،

رحلة الذات إلى الآخر او التلاقي معه في شراكة الحياة قد تكون هي بذاتها مسار التاريخ ومعناه الأسمى، وقد جاء في قول كريم ما يبين ان الله سبحانه خلق الناس أمماً وقبائل ليتعارفوا، وهو لو شاء لكان جعلهم امة واحدة. غير أن إبحار الإنسانية في يمّ الوجود لم يعرف منطلقات سليمة منذ البدايات. فلقد وصم سعينا الأول من إدراك الذات والآخر معاً بالانقسام، وتحولت اول عملية انقلابية للإنسان ضد مقاصد الله فيه إلى منقلب عليه، ما عتم أن خطف منه سكينة الجنة وسكناها، وبسط المدى من حوله صحاري تنبت له الشوك. ونفث فيه الثعبان سموم العداوات فوقع فريسة لها، وما زال يجر ذيولها عبر دروبه الوعرة حتى اليوم، وحتى الغد أيضاً.

وهل من دلالة على هذا المنحى البشري المتعثر أوضح مما في المفارقة بين مثال الأخوة المنزلة علينا نعمة من السماء، والواقعة التي واجه بها أول أخ أخاه في التاريخ فقتله قتلاً وجرح بفعلته وإثمه طهارة الأرض؟ وإذا كانت هذه صورة الإخوة شركاء اللحم والدم، فما تكون الحال مع الغرباء والأبعدين؟

ما من شك في أن حالة البغضاء قد أرخت بظلها على تعاطي الناس بعضهم مع بعض سواءً على المستوى الفردي أم الجماعي. فالذات العامة كما الذات الخاصة تبرز إلى حيز الوجود علاقة يسودها التوتر، أي على مستوى الأمم والشعوب. ولن يكون إصلاح الأمر هيناً بين هؤلاء المتعاطين، لأن تغيير الذهينة البشرية قد يتطلب وقتاً وجهداً ينبسطان ربما على مدى التاريخ كله، حيث تتجلى هدايات الرسل والأنبياء وساطات الخير النابعة من ذوي الإرادة الصالحة.

أحبوا أعداءكم يقول السيد المسيح بما يشبه التحدي المطلق للإنسان الذي يسعى إلى أن يكون إنساناً حقاً. إن هذا القول الإنجيلي يتضمن نظرة إلى العداوة تجعل منها أمراً طارئاً على الوجود وليس عنصراً ثابتاً من طبيعة الأمور. فالإنسان لا يخلقه الله ليكون عدواً للإنسان، بل رفيقاً له وأخاً، كما يظهر في أحكامه ووصاياه، مما يضفي على العداوة لون العبور. فأنت الناظر إلى عدوك ترى من وراء العداوة المقامة حاجزاً بينك وبينه قبساً من إنسانية تبقى هي حقيقته القصوى. ومع زوال العداوة المشوهه للصورة الحقيقية تتغير أمامك الدنيا وتنزل عليك المصالحة المرجوة التي من شأنها إعادة أوضاع الارض إلى مجاريها. فهل تنبع من غير هذه الرؤيا فضيلة الرجاء؟

لكن مثل هذه الرؤيا لا تمر بسهولة في أعين الذين يصنفونها في خانة الطوباويات. فيتعذر لها استقبال رحب في واقع الدنيا. وتفسيرات التاريخ كثيرة في هذا الموضوع، وهي ترسم في غالبيتها الصراع البشري وكأنه هو الوجود او الواسطة إلى تحقيق الوجود.

ومن هذه التفسيرات ما يطلقه بعض المفكرين الذين يدعون صفة الواقعية ليقولوا إن المصالحة البشرية وهم . والسلام لا يتأمن إلا عبر توازن القوة بالذات. فلا بد من السلاح ومن مواقف الحذر من الآخر إلى ما لا نهاية .أما التفسيرات الأخرى التي تدعي هي أيضاً مطابقة بين الواقع والمثال، فهي ترى التقدم عبر صدام الطبقات وصولاً إلى ما يسمونه اليوم صراع الحضارات، وكأن هذه الحضارات مدعوة إلى أن يتفانى بعضها على يد البعض الآخر. اما الأديان فتشويهها لدى كثير من الأقلام بات على قدم وساق بغية تصويرها وكأنها نوع من العقائد المتجافية أصلاً وفصلاً ومنطلقاً ومآلاً. هذا في ما المسيحية الحقة والإسلام الحق عالميّا التوجه والدعوة، وهما مسؤولان إيماناً وتصرفاً عن التعاون والتقارب بين الشعوب تحت أفق من المودة والمصالحة النهائية لعباد الله جميعاً عندما تسترهم نعمته وينزل عليهم رضوانه.

أي فعل والحالة هذه يكون المبدأ؟ وأي ساح يكون مجالاً للخير أو استحضاراً به؟ ولو كان الجهاد الأصغر هو الدنيا وما فيها لما كان سمي جهاداً أصغراً، فأحقية الجهاد محكومة أصلاً بفعل الجهاد الأكبر، وهو جهاد الروح الذي يواصل بين الأرض والسماء. لذلك فإننا لا نرى إعلاماً لا يحضر فيه جوهر الرسالات حضور الملهم والموجه والمنبه إلى كبرى الغايات. وإعلام أهل الحضارة إما أن يكون حضارياً أو لا يكون. لن يعني هذا الكلام رفض المواجهة في التاريخ بين الحق والباطل، ولا رفض المقاومة حيال الشر والأشرار، ولن يتجرأ أحد فيدعي أن الحرية لا ثمن لها، لكن مثل هذه المواجهات على أنواعها لا تقضي بسحق الآخر ومحقه، بل بتغيير الظروف التي مكنته من العدوان سعياً إلى انتشاله من براثن الإثم الذي حل فيه. أنت مدعوّ لنصرة أخيك ظالماً فتنزع الظلم منه، ومظلوماً فتردّه عنه. لكّن أخاك في النهاية ليس هذا الذي ولدته لك امك وحسب، إنما الذي ولدته الأرض، فهي بدورها أم وهي الأم الكبرى لجميع الذين يلبسون جلدتها الواحدة. فأي إعلام نصوغ عن الذات وأيه عن الآخر؟ لن يجدي نفعاً إعلام يستر الأنا عن ذاتها أو يشلح عليها ثوباً من الطوباوية ليس لها، فيعيرها محاسن غيرها زوراً وخلافاً للحق. إن حرية الإعلام حيال الذات تحاذرها من الرأي المسبق الواحد الأحد، وتعترف للجدل بقدرته على توليد الحقيقة أو على إظهارها للناس، فيربّون على النقد البناء والإصلاح الأخوي المفروض عليهم باسم شرائع الأرض والسماء. وهل تغيب عن بالنا ضرورة محاسبة النفس التي اشتهر بها الروحيون من كل دين؟ او ننسى الخلفاء الأوائل الذين كانوا يتنكرون في الليالي ويسيرون بين الناس، وفيهم الغرباء، ليسمعوا منهم حقيقة ما يظن بهم هؤلاء وما يحكمون عليهم به، خارج مجال القضاء وسلطة المتسلطين؟

إن القصد من هذا الأسلوب لم يكن خنق المؤامرات في المهد، بل إصلاح الحاكم ذاته وإيصال همسات الناس إليه بالسر قبل العلن. إنه إعلام من أجل الذات، والهدف منه استقامة الحكم وسلامة الناس في آن معاً.

أمّا عن الآخر، صديقاً كان ام عدواً، فإن الإعلام المجدي حياله لن يسعى إلى تشويهه ظناً بأن في ذلك وسيلة سحرية للسيطرة عليه، فالتشويه آفة إعلامية مثل التستر. وإن كان الإنسان لا يستر حقيقة أمره، فكيف له أن يستر حقيقة اعدائه؟ فالظالم ظالم ولن يقول احد عن الغاصب والمحتل إنه ليس بالغاصب أو المحتل. إلا أن الحقيقة يجب ان تبقى هي الحقيقة، فلا نسلب - حتى من الأعداء - محاسنهم اذا كانت لهم من محاسن، بل نتوخى مقاربة الأمور بموضوعية قصوى، لأن مثل هذه الموضوعية تقي من السقوط في الأوهام وفي الحسابات الخاطئة.

وفي نهاية المطاف، يدعى الذات والآخر معاً إلى تخطي الواقع الراهن حيث يمكن التخطي، وإذا ما تقدم التاريخ نحو كمالاته فيواكب الإعلام مثل هذا التوجه رافضاً حصر مادته في أمر النزاعات وملقياً الضوء على إيجابيات الحياة بأبعادها الثقافية والروحية من كل نوع.

ربما كانت هذه المواضيع بعضاً من شغل هذا المؤتمر الكريم المنعقد حول "الذات والآخر في الإعلام المعاصر". فنعمَ المسعى فيه، ونعمَ الساعين في إثر حقيقة الإعلام وإعلام الحقيقة. وإنني باسم صاحب النيافة والغبطة الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق الكلي الطوبى، الذي شرفني بتمثيله فيما بينكم في هذا اللقاء الدوري الرفيع، أتمنى للمؤتمر السابع "لكلمة سواء" مزيداً من النجاح والسؤدد في خدمة أعز قضايانا في الوطن اللبناني، وفي سائر دنيا العرب. ولكم منه تعالى دوام التوفيق.
وشكراً لإصغائكم.