صورة الإسلام في الغرب: نموذج فرنسا - الدكتور قيس جواد العزاوي

الرئيسية إصدارات كلمة سواء مؤتمر "كلمة سواء" السابع: الذات والآخر في الاعلام المعاصر

اليوم الثاني - الجلسة الثالثة

صورة الإسلام في الغرب: نموذج فرنسا
الدكتور قيس جواد العزاوي

شغلت "صورة الآخر" الفكرين العربي والغربي عبر الأزمنة الماضية والحاضرة وكتب عنها عدد كبير من الباحثين، وكانت موضوعاً لندوات وحوارات. ومنذ الأزل يرى المرء نفسه بعيني غريمه، وكذلك الامم والشعوب. لقد كانت صورة الآخر، وما زالت، هي الهاجس المركزي للأنا الحضارية. نحاول في هذه العجالة أن نقدم صورة الاسلام في فرنسا كما هي متجسدة معرفياً وإعلامياً وسياسياً.

صورة الأنا يحددها الآخر
تنطلق نظرة الغربي إلى الآخر من نظرته هو نفسه إلى ذاته ، وتدلنا الدراسات الغربية على أن هذه النظرة قائمة على بنية صراعية، يراها هربرت ماركوز مبنية على كونها "ذات ضد موضوع"، وهي بالتالي "أنا تصارع وتقهر وربما تغتصب الآخر أيضاً وذلك هو شرط بقائها(1)". يجسد لنا هذا الموقف العدواني تجاه العالم الخارجي أمرين: الاول ان الحالة الصراعية مع الآخر هي جوهر الذات الغربية، والثاني ان هدف هذه الصراعية في نهاية المطاف هو سيطرة الإنسان على الإنسان، وبناء عليه، قادت هذه الدينامية الصراعية حركة "التقدم" الغربي كلها للسير على عجلتين هما: قهر الطبيعة وإخضاع البشر. حركة تجسدت في مسيرة الغرب عبر الأزمنة والأمكنة.

تلك هي صورة عامة لعلاقة الغربي بالآخر، صورة مستقاة من الفكر الغربي نفسه، وبالإمكان العثور ببساطة على نقيضها، ولكن ما يميز هذه الصورة ويجعلنا نوردها قبل غيرها هو في كونها الصورة الغالبة .. وتحت خيمة هذه النظرة الغربية إلى الآخر تتعايش النظرة الفرنسية للشرق، ونعني بالتحديد الشرق الإسلامي، التي هي في الغالب نظرة استعلائية. وعلى سبيل المثال لا الحصر كان فرانسوا غونيه فيكونت دي شاتوبريان (1768 ـ1848) ينظر بدونية إلى الشرقيين فيراهم "يجهلون الحرية ولا يعرفون الملكية ويعبدون القوة ، وعندما يمر وقت طويل دون ان يظهر ممثل عدالة السماء فإنهم يبدون كجنود بلا قائد أو كمواطنين بلا مشرع أو كأسرة بلا عائل(2)".

ولن نورد أمثلة أخرى، وهي متوفرة بكثافة، كما أننا لن ندخل في تفصيلات النظرة الاستعلائية الغربية للشرق الإسلامي ماضياً، فالكل يعلم أن الصورة الغربية للشرق قد تطورت عبر القرون من كونها صورة لشرق إسلامي منظور اليه بعداء وريبة من الاوساط الكنسية، إلى شرق رومنطيقي ملهم للأدباء والشعراء الأوروبيين، ثم إلى شرق حضاري جوهره فكر وعلوم وفلسفة اخذت طريقها إلى الجامعات الاوروبية، واخيراً إلى شرق إرهابي مهدِّد للغرب وحضارته. هذه هي المشارق النقيضة التي كونتها الصور الغربية للآخر(3).

وعلى الرغم من اعتقاد بعض المفكرين الغربيين أن الغرب عرف الاسلام في ميادين القتال والمنازلات الكبرى (4)، فإن الحقيقة التاريخية التي يعترف بها عدد كبير من المؤرخين هي ان هذا الغرب قد عرف نفسه أو حدّدها عبر القرون الماضية مقارنة بالشرق الإسلامي. وما حدث بالامس من وئام واحتدام في هذه العلاقة، وما يحدث اليوم من مقابلة ما بين الغرب والاسلام، وتحديد كل منهما لنفسه مقارنة بالآخر، إنما هو استعادة لعلاقة وئامية و صراعية قديمة، تجددت فأخذت صور الفهم تارة، وسوء الفهم تارة اخرى، والاحتدام والتصادم تارة ثالثة. إن صورة الإسلام كآخر في الفكر الفرنسي مثلاً صورة اشكالية كما يراها عالم الإسلاميات برونو إتيان لأنها متداخلة مع الأنا ولا انفصال بينهما، فالآخر هو مرآة الأنا "والنظر لصورتنا يطرح قدرتنا أو صعوباتنا للعيش مع أنفسنا ذاتها"(5)

لقد حدد الغرب هويته المعاصرة من خلال الفتح الإسلامي باعتباره تحولاً معرفياً وليس غزواً عسكرياً كما يراه سوء الفهم .. فإذا كان أناتول فرانس (1844 ـ1924) قد اعتبر في إحدى رواياته أن تراجع المسلمين في معركة بواتييه عام 732 هو تراجع للحضارة أمام بربرية الفرنجة ، فإن الدهشة ستنتاب القارئ عندما يجد كاتبين فرنسيين آخرين يؤرخان لبداية الحداثة في كتابهما الازمنة الحديثة (6)، ويعتبران عام 1453 هو نهاية العصور الوسطى في أوروبا وبداية الحداثة، ومن المعروف أن هذا التاريخ بالذات هو تاريخ سقوط القسطنطينية على يد المسلمين.

وإذا تركنا جانباً صورة الاسلام في الأزمنة الماضية وبحثنا في انعكاسات هذه الصورة على حاضرنا المعاصر فسنجد أن كثيراً من الغربيين يرون أن علاقة الغرب بالإسلام في الأزمنة الحديثة قد لحق بها الضرر من خلال صعود الإسلام السياسي .. ويحددون بداية التوتر في العلاقة مع انتصار الثورة الإسلامية في ايران باعتبارها قاعدة الانطلاق للاسلام السياسي. وقد وجدت الثورة في بدايتها ظروفاً دولية إيجابية وحاولت النخب الغربية استيعاب الدرس الإيراني جيداً حتى ان "الصحافة الفرنسية بأغلبها وجدت تبريرات للشعور المعادي للغرب في الثورة الإيرانية: سواء بتوضيح تاريخ الاختلافات كما فعل بول بالطا ومكسيم رودنسون، أو بالكشف عن مفاصل المجتمعات الإسلامية (جان فرانسوا كان وجان ماري دومنش)، أو بالإعلان عن تحول جديد في تاريخ الإنسانية (ميشال فوكو وفي روحية أخرى فنسان مونتاي وجاك بيرك)، او بتذنيب الغرب لنفسه لأنه لم يكن يمتلك المعرفة او القدرة على فرض نفسه باعتباره الحضارة الوحيدة المسيطرة (اني كريجيل وجان فرانسوا ريفل).. بيد أن هذا الموقف الهجين من التبريرات استسلم شيئاً فشيئاً إلى تبنّي موقف الإدانة" (7).

جذور الصورة معرفياً
ولكن رب معترض يقول لنا إن البحث عن صورة الاسلام السلبية لدى الفرنسيين متجذر في مصادر معرفتهم الأولى بالإسلام، وتلك لا علاقة لها بالإسلام السياسي او العقيدي او الحضاري، فنحن نجد أن الكتب المدرسية التي تلقن الاطفال والناشئة في شتى المراحل التعليمية تقدم لهم تاريخاً للاسلام يتعارض مع أولى بديهيات الموضوعية. وهذا اعتراض سليم، فالمدارس تغرس في النفوس مكونات الهوية وحب الوطن والحذر من الاعداء، ويفترض بها الابتعاد عن أحكام القيمة أو بث الاحقاد تجاه الأفكار والاديان والامم، بيد أن الكتب المدرسية الفرنسية لا تراعي ذلك في تناولها لصورة العرب والمسلمين. فالعلاقة بين الفرنسيين والعرب كما تصورها الكتب المدرسية" عدائية "فهذه الكتب تنعت العرب بـ"المتمردين والنهّابين والمخربين والسفاحين"، ولا تأتي على ذكر اية صفة من صفاتهم المعروفة مثل الشرف والشجاعة والعرفان بالجميل وكرم الضيافة والتعاون والقناعة وقوة التحمل .. وفي الأدب الفرنسي نرى أن صفات العرب تظهر في العصور الوسطى "ككفار وأعداء وخونة وغزاة"، وفي الادب الاستعماري "متمردون يشكّكون في ربهم وعاجزون"، وفي الأدب الاستشراقي "يسرقون التجار وكثيراً ما يقتلونهم"، وفي الأدب المعاصر فهم "أذلاء خائفون ومتهمون بالتأخر في عملهم" (8).

أما صورة الاسلام في كتب التاريخ للمرحلة الثانوية فتلاحظ المؤلفة أن هناك رؤية باردة تصبح أحيانا عدائية بين الغرب والعالم الإسلامي من ناحية، وبين الاديان التوحيدية الثلاثة من ناحية ثانية. "فكتاب السنة الثانية يؤكد التعصب الكامل للإسلام حيث يدعي ان القرآن يرفض أي دين غير الاسلام ويسعى إلى فرض الاسلام على غير المؤمنين بالقوة، مؤسساً هذا التعصب على القرآن دون ذكر أية آية قرآنية لتعزيز هذا القول" (9).

تلك صور تحمل مفاهيم إرساليات المبشرين وإرث المستشرقين وبقايا الذهنية الاستعمارية والنظرة الاستعلائية الغربية الحالية عامة. وغنيّ عن البيان، الخطورة المترتبة عن تعليم مثل هذه الصور للأجيال الفرنسية الناشئة وتوجهاتها المستقبلية. إنها تزرع في قلوبهم الكراهية بدلاً من المحبة، وتكون بمثابة المخزون الذهني المعادي للاسلام والعرب، فالصورة الغربية السائدة حالياً تجد جذورها في هذه الأرضية المعرفية التلقينية العنصرية والخطيرة معاً. ولا شيء في أفق العلاقة العربية الفرنسية يدلنا على قرب تغير هذه الصورة أو تعديلها، فالضغط العربي الإسلامي غائب تماماً، ولم يلجأ رموز الجالية الإسلامية في فرنسا إلى الاعتراض على ما يجري .. وبانتظار ذلك تدخل مجموعات الضغط الإسرائيلية إلى المدارس الفرنسية من أوسع أبوابها لتحسين صورة إسرائيل من خلال تدريس الطلبة تاريخ اليهود والمحرقة "الهولوكوست" التي قام بها النازي الالماني لكي تبرر احتلال الارض الفلسطينية وقتل الفلسطينيين.

وفضلاً عن هذه الصور السلبية في مدارس الجمهورية الفرنسية، فإن هناك مشاكل اخرى تتعلق بالعزل العنصري للتلاميذ الأجانب، وهم في الغالب اطفال المسلمين .. ففي ضواحي المدن حيث تعيش الغالبية العظمى من الجالية الإسلامية في "غيتوهات" عنصرية، تجد أن مدارس الاطفال التي سميت بمدارس العزل العنصري تحفل بالملونين وخالية من الاطفال الفرنسيين وتعاني تدنياً في الخدمات التعليمية وفي مستويات الدراسة والإهمال الاداري، مما يرفع من نسب الإخفاق المدرسي وكثرة المشاكل. ويؤدي ذلك، إضافة إلى قسوة الظروف المعيشية لعوائل المسلمين، إلى توقف نسب كبيرة من الاطفال عن مواصلة الدراسة والاتجاه نحو التسكع في الشوارع وارتكاب الجنح. وتتراكم الصور السلبية عن المسلمين عندما تختلق مشكلة جديدة وهي الحجاب (*) في المدارس لتكون مبعث توتر حاد يسود اجواء الدراسة لاطفال المسلمين وناشئتهم، وتوتر آخر للأجواء الاجتماعية والإعلامية للفرنسيين عامة. وهو ما يوفر الارضية اللازمة اعلامياً لتوجه أصابع الاتهام إلى الاسلام الذي يضطهد الفتيات ويحرمهن من دروس الموسيقى والرياضة ...الخ؛ ونتيجة ذلك حرمان الفتيات من الدراسة.

وربما يكون المفكر الفرنسي المعروف إدجار موران أفضل من يقدم مأزق الدولة الفرنسية ازاء قضية الحجاب التي لا وجود لها في اية دولة اوروبية باستثناء فرنسا. يقول موران في هذا الصدد: "إن الحجاب الإسلامي يطرح قضية تقليدية تماماً فقد تكونت المدرسة العلمانية ضد الكنيسة الكاثوليكية التي كانت لها سلطة على التعليم، واليوم يحمل الفتيان والفتيات الصلبان في المدرسة ولا يطلب منهم نزعها، وإذا أراد يهودي أن يرتدي قبعة، يبقيها على رأسه. إن حرمان فتاة من المدرسة لأنها ترتدي حجاباً إنما يعني حرمانها من فرصة للدخول في الدنيا العلمانية (10).

تجسدات الصورة إعلامياً
تتفاقم بشكل مقلق للغاية صورة الاسلام في وسائل الإعلام، ذلك لأن هذه الوسائل تلعب دوراً اساسياً في تكوين الرأي العام الفرنسي، وهي باعتراف عدد كبير من الباحثين الفرنسيين تتخذ مواقف عدوانية وتحرض العامة على المسلمين. وقد أشار أحد الباحثين الجامعيين وهو الدكتور صادق سلام في بحث له إلى أن الصحافة وضعت على عاتق المسلمين الازمة الاقتصادية والبطالة واختلال الأمن والإرهاب. وقد أصبح الناخبون الفرنسيون في مواقع عديدة يصوتون لأكثر المرشحين عدوانية ضد الاسلام. وقد لاحظ الباحث ايضاً ان المجلات الفرنسية التي تخصص أعداداً خاصة عن الاسلام بعناوين استفزازية تزيد فيها من حدة الفوبيا من الإسلام ترتفع معدلات مبيعاتها بنسبة 15 بالمئة، لذلك باتت المجلات التي تعاني الركود تزيد من أعدادها التحريضية الخاصة ضد الإسلام لكي تحل ازمتها (11).

في اجواء مثل هذه ازدهرت تجارة معاداة الإسلام، وبتنا نقرأ عناوين تتعمد الخلط ما بين الإسلام والإرهاب، فعلى مدى العقدين الأخيرين وبخاصة بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر صدرت مئات المجلات الأسبوعية والشهرية بأعداد خاصة مثل "القرآن والعنف" و"الإسلام والسيف"، و"استيقظ يا محمد فقد اصبحوا مجانين"، و"الإرهاب الإسلامي"، وتلصق أغلفة المجلات التحريضية بحجوم كبيرة "بوسترات" على الواجهات الإعلانية في كل محطات المترو وسيارات نقل الركاب. وفي الشوارع، إمعاناً في التنكيل بالإسلام وصورته . ومؤخراً صدرت مجلة الاكسبريس 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2002 بعنوان غلاف لصق على اغلب واجهات المدن الكبرى، وهو "تحقيق حول أموال الإسلام". وتحت العنوان عنوان آخر "إرهاب: بن لادن مازال حياً"، مما يترك صورة ذهنية لدى المتلقي تعني أن اموال المسلمين مخصصة للارهاب. ويتحدث العدد عن تمويل بناء الجوامع في فرنسا من قبل دول إسلامية يقول إنها تتدخل في شؤون المسلمين الفرنسيين، وهو ما تعترض عليه الدولة لأنها تريد إسلاماً فرنسياً وليس إسلاماً في فرنسا كما يقول وزير الداخلية الفرنسية نيقولا سركوزي، مؤكداً ضرورة العمل على علمنة الاسلام الفرنسي.

وإشكالية بناء المساجد في فرنسا على كل لسان، ففي وقت ترفض فيه الدولة مساعدات المسلمين من خارج فرنسا لبناء المساجد، فهي لا تساعد بدورها ولا تطلب من البلديات منح قطعة من الأرض على الاقل، لكي يجمع المسلمون الاموال اللازمة للبناء، والأدهى من ذلك أنها ترفض بشدة منح رخص البناء التي اصبحت عسيرة جداً باعتراف المسؤولين الفرنسيين أنفسهم ...ويشير إلى هذه الوضعية جان بيار شوفينمان وزير الداخلية الفرنسية الأسبق إذ يقول: إن المسلمين يضطرون لممارسة شعائرهم الدينية في أقبية البنايات او كراجات السيارات، لأن السلطات البلدية لا تمنحهم الموافقات اللازمة لبناء مساجد لهم. وتؤكد ذلك الصحافية الفرنسية ماريون فستريت في مقال لها بعنوان "المسلمون في فرنسا: مشاكل الاندماج والهوية" (مجلة الاكسبريس في اواخر كانون الاول/ ديسمبر 2000)، بأن فرنسا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي ترفض منح المسلمين موافقات لبناء مساجد لهم. وتشير إلى عشرات الطلبات لبناء المساجد التي تنتظر منذ سنوات دون موافقة البلديات المعنية. كما تأتي على ذكر اقدام أحد رؤساء البلديات على هدم مسجد كبير بالبلدوزر، ثم تشير إلى رئيس بلدية نيس الذي كتب صراحة "ضقت ذرعاً بالمسلمين ولن اسمح ببناء مساجد في دولة علمانية"، وتنتهي بقولين احدهما للجنرال ديغول يقول فيه "احسنوا معاملة المسلمين تحصلون على مواطنين منضبطين" وقول عميد مسجد باريس الأسبق الشيخ عباس "إن فتح مسجد جديد في فرنسا يعني اغلاق سجن".

ويبيّن أستاذ علم الاجتماع بجامعة السوربون ميشال رونار، عنصرية السلطات الفرنسية التي طردت من فرنسا إماماً تركياً في تشرين الثاني/ نوفمبر 1993 لأنه قال "إن قوانين الله تتقدم على القوانين الجمهورية"، وكرمت الحاخام اليهودي الأكبر مع أنه كتب في مجلة أحداث الخميس في 19/4/1990 "لايوجد قانون مقدس لليهودي سوى التوراة التي تتقدم على القانون المدني الفرنسي" (12).

ومن الأمثلة الصارخة للدور التخريبي الذي يمارسه بعض الإعلاميين الفرنسيين ضد الإسلام والمسلمين نجد أن صحافياً كبيراً مثل تيري دي جاردان نائب رئيس تحرير صحيفة الفيغارو، وهي الصحيفة الاكثر انتشاراً في فرنسا، يصدر كتاباً بعنوان رسالة إلى رئيس الجمهورية تتعلق بالهجرة يضمّنه الأفكار التالية: هل من الطبيعي باسم العلمانية وحرية العبادة ان تسمح فرنسا لقوى اجنبية وحركات ارهابية تقود بالبترودولار الأئمة ومئات الاماكن المقدسة ؟ ويخلص إلى القول: "لا نحب العرب ولا يوجد إسلام معتدل يقبل التعايش"(13).

وهذه صورة قبل تفجيرات سبتمبر بأربع سنوات، فلنمعن النظر في ما كتبته الصحافة الفرنسية في الأيام التالية بعد التفجيرات: المتابعة الدقيقة لهذه الكتابات سمحت لنا بالتقاط ثلاثة مستويات من الكتابة الصحافية: فهناك من وجد أن الاحداث فرصة لربط الإرهاب بالإسلام كدين، باحثاً عنف المتطرفين في النصوص القرآنية، وهناك من وجدها فرصة لربط الارهاب بالفلسطينيين، وفئة ثالثة عقلانية اعتبرت أن الارهاب قضية سياسية وحلّها سياسي عن طريق تسوية المشاكل المشتعلة في الشرق الاوسط.

أ ـ الاسلام ينتج الارهاب
كتب في المستوى الأول كلود امبير افتتاحية مجلة لوبوان (19/11/2001) بعنوان "العقاب" متسائلاً: كيف يمكننا أن نعاقب مجانين الله دون ان نبعث الجنون بالجموع المضطربة من جراء تقديسها الله؟ إن الاسلام متحفظ على دور الفرد ويبقى رافضاً للانتاج الرأسمالي وهو ما يؤدي إلى البؤس، والبؤس يؤدي بدوره إلى الثورة ، والثورة تنتج الارهاب الذي ينشده المتعصبون طلباً للشهادة .. وهكذا، وبكل بساطة يصل الكاتب إلى نتيجة مفادها "أن الاسلام ينتج الارهاب".. ويضيف: فكروا بالغرابة المروعة التي تجري في ديارنا من الكمبيوتر الذي ينادي للصلاة إلى تدريب الطيارين الانتحاريين او تحضيرهم لقتال الكفار تمجيداً لله.

وتأكيداً لهذا الخط كتب جاك روليه أستاذ العلوم السياسية في جامعة روان في العدد نفسه من مجلة لوبوان مجيباً عن سؤال: هل الاسلام ينتج العنف؟ بقوله إن الاسلام يوصي بقتل الكفار، والقرآن يأمر المسلمين أمراً ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الاخر﴾ ]التوبة، 29[ والمسلم ليس مثل المسيحي او اليهودي اللذين لا يلتزمان بالنصوص، إن المسلم ملتزم كلياً بالقرآن باعتباره هو النص المقدس. وبهذا يؤكد هذا "الاكاديمي" لعامة الفرنسيين على ان الاسلام يحث على القتل وهو بالتالي منتج للإرهاب!

ويتمادى جان ـ كلود كيفير في افتتاحية درنير نوفيل في التحريض ضد الإسلاميين ويخلط ما بينهم وعامة المسلمين مدعياً بأن الغرب وصي على النفط، وانه يمول من خلاله قتلة الغرب فيقول: لم يعد هناك سوى وقت قصير جداً لاستئصال الحماسة الإجرامية التي يبديها المتطرفون الإسلاميون الذين تمولهم بشكل كبير السعودية من خلال مؤسستها الوهابية .. وطالما نحن ندفع سعر النفط غالياً بعد أن اكتشفناه في رمال الصحراء فإننا ندفع حساب قتلة الغرب.

وفي مناظرة تلفزيونية جرت في الخامس من تشرين الأول/ اكتوبر 2001 عن "الاسلام والعنف" تساءل الفيلسوف الفرنسي المعروف جان بيير فرايسيف عن الذين قاموا بتفجيرات سبتمبر، وفيما اذا كانوا منافقين وخارجين عن الاسلام وتصرفوا خلافاً للتعاليم القرآنية ام انهم من المؤمنين الصالحين الملتزمين بالتعاليم القرآنية؟ وأعاد طرح السؤال بالشكل التالي: هل القرآن يتناقض مع روح حقوق الإنسان؟ فأجاب: "نعم. فالكفار يستحقون القتل والهلاك، كما تستحق النساء الهجر والضرب، وأن هناك قرابة 700 كلمة في القرآن تدور حول العقاب والعذاب والتدمير".

ب ـ الربط بين الإرهاب والفلسطينيين
اراد كتّاب المستوى الثاني استغلال الأحداث لكي يدينوا الفلسطينيين بالارهاب أو ليقولوا إن الفلسطينيين قد تشفّوا بما حدث للأمريكيين، ونشير هنا إلى تصريحات الخبير في العلاقات الدولية جيرارد شايلياند لصحيفة لوموند في 18/9 /2001 حيث امتدح العدو الصهيوني قائلاً: "انظروا إلى دولة إسرائيل التي هي هدف لكل انواع الارهاب منذ عام 1968، ألم تعش وتقاوم إلى يومنا هذا؟" ... وخلص إلى القول: "إن على الولايات المتحدة الضغط على السعودية التي تقدم باسم الوهابية الأموال للدعايات التي تبثها الحركات الإسلامية".

ومن ناحيته أشار جاك غيون في افتتاحيته لصحيفة شارنت ليبر (13/9/2001) إلى الفرحة التي عمت الشارع الفلسطيني بالتفجيرات واعتبرها احتفالاً بالعمليات الإرهابية وقال: ان منظر الشباب الفلسطيني الذي يصفق لصور الموت والرعب يصور إلى اية درجة وصل الشرخ بين العالم المهمش وحضارة الرخاء".

ونجد في افتتاحية صحيفة لوموند (19/9 /2001) هجوماً على السعودية لأنها تتضامن مع الفلسطينيين إذ تقول: "طيلة السنوات الماضية اعتبرت السعودية من باب النفاق حليفاً للغرب، مع انها تقوم بتمويل الحركات الإسلامية المتطرفة، وتتبنى صحافتها بمراقبة مباشرة من العائلة المالكة خطابات متطرفة جداً في كل ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي".

جـ ـ أفضل دفاع ضد الارهاب هو العدالة
أما كتّاب المستوى الثالث فهم فئة العقلانيين الذين نظروا إلى ابعد من الاحداث الدامية باعتبارها نتيجة لسياسات ظالمة. كتب في هذا الاتجاه سيرج جولي افتتاحية صحيفة ليبراسيون بعنوان "اللانظام العالمي الجديد" (13/9 /2001) ليقول: إن هذا الهجوم الإرهابي على امريكا هو إعلان حرب، وما يليها منطقياً هو الحرب الشاملة. ولكن الولايات المتحدة تقوم بهذه الحرب ضد عدو سيهرب منها على الاقل قسم منه، وهذا القسم يمتلك مئات، بل آلاف الانتحاريين المستعدين للموت لكي يحطموا أمريكا وإسرائيل ... ويخلص "لا بد للولايات المتحدة أن تنزع أولاً فتائل القنابل الموقوتة وهي عدد من الصراعات واولها في الشرق الاوسط. إن افضل دفاع ضد الإرهاب ليس الحرب ولكنه العدالة". ان سيرج جولي هنا يعتمد على حكمة الفيلسوف الألماني هيغل الذي قال مرة: "إما أن تُطبَّق العدالة أو ينقرض العالم".

وبشكل آخر كتب جان ـ ماري كلوباني في صحيفة لوموند يقول: في عيون الرأي العام الامريكي والقادة الامريكيين فإن الإسلامية في كل اشكالها ستكون هي العدو الجديد، إن هذه الهجمات البربرية ذات الطابع العسكري التي قام بها هؤلاء هي مخالفة لما يعتقد به أغلبية المسلمين، فالاسلام كدين لا يسمح بالانتحار، مثل المسيحية .. ولكن الأمر يخضع هنا لمنطق آخر، وهو منطق سياسي من شأنه أن يطور أزمة سياسية في جميع انحاء العالم العربي. وعلى الامد البعيد فإن هذا السلوك انتحاري لأنه يشعل النيران ضد من يعتبرونه الشيطان الاكبر.

وفي السياق نفسه ذكر بيير لوك سيغيون في افتتاحية نشرة القناة الاخبارية الفرنسي ال سي أي أن الاوروبيين لديهم على الاقل وسيلة لتأكيد أصالتهم لتلافي الاخطار. إنها العمل بجدية وقوة في تسوية الازمة الإسرائيلية - الفلسطينية التي تركوها موقتاً للدبلوماسية الأمريكية، وكذلك إنهاء الحصار الغبي المفروض من الولايات المتحدة منذ عشر سنوات على العراق والذي يقتل الشعب البريء.

وبعد أن هدأت الاوضاع الدولية واشتعلت جبهة فلسطين بالقتل الإسرائيلي اليومي للفلسطينيين على كل الشاشات، وبالتهديدات الأميركية لحرب جديدة في العراق، وبعد أن اعيد انتخاب الرئيس شيراك بدعم وتأييد من الجالية الإسلامية، وبعد تعيينه وزيرين مسلمين في الحكومة الحالية (تقية سيفي وزيرة البيئة وحملاوي مكشرة وزير المحاربين القدامى) استمرت وسائل الإعلام الفرنسية رغم الاصلاحات المحدودة التي شهدتها مؤخراً في تحريضها على الاسلام بشكل فاقع وغير لائق. ففي برنامج في قناة التلفزيون الثانية وهي القناة الرسمية (في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2002) بعنوان "هل ينبغي الخوف من الاسلام؟" أكد البرنامج الدعوات التي يريد الإعلام نشرها، وهي ان الخوف من الاسلام والمسلمين أصبح ظاهرة منتشرة لدى عامة الفرنسيين. اشترك في البرنامج وزير سابق للداخلية وهو جان بيار شوفينمان والمتحدث الرسمي باسم الحكومة الفرنسية جان فرانسوا كوبي وآخرين، ولكن مقدمة البرنامج كانت تقذف التهم مجاناً على الإسلام والمسلمين .. ومن ناحيته فقد اعتبر السيد كوبي أن حكومته تهتم بالارهاب والحجاب وبناء الجوامع في محاولتها لتنظيم الاسلام ومراقبة الائمة ومنع التمويل الأجنبي لبناء الجوامع .. وتتجسد الصورة التي يتمثلها المتحدث باسم الحكومة للاسلام في هذا الخلط اللاشعوري، أو المتعمد، ما بين الإرهاب والحجاب والجوامع .. فهو يصر على ضرورة أن يقوم إسلام فرنسي خاص يفرض في مجلسه الاستشاري نسبة من النساء، وحين سأله احد المشاركين هل تفرض الدولة الفرنسية نسبة من النساء. على المجلس الكاثوليكي الأعلى او على المجلس اليهودي؟ تهرب من السؤال.

تجسدات الصورة سياسياً
تطرح قضية الوجود الإسلامي في فرنسا إشكالية مهمة للغاية على الطبقة السياسية الفرنسية برمّتها. وقد حاولت هذه الطبقة بكل شعبها إيجاد سبل للتعامل مع هذه الحالة الفريدة لجالية دينية بكل تجسداتها الاجتماعية والسياسية في جمهورية علمانية. ذلك لأن فرنسا ليست كبريطانيا او امريكا او باقي الديمقراطيات التي يتآلف فيها الاجتماع السياسي في جاليات .. إنها جمهورية قامت أساساً بعد حرب دامية مع الكنيسة لترسي نظاماً علمانياً، الاصل فيه للمواطنة وليس للجاليات مهما كان لونها او جنسها او دينها. تلك هي نظرياً حجج السياسيين في النظر إلى القضية الإسلامية في فرنسا، التي يعتبرونها قضية اجتماعية امنية وليست قضية سياسية. ولكن التنظير شيء والواقع شيء آخر. فالنظر إلى الوجود الإسلامي من هذا الباب الرسمي لم يؤد إلا إلى تعقيد العلاقة مع المسلمين الذين باتوا يشكّلون عشر سكان فرنسا ويتوسعون في تأثيرهم يوما بعد يوم واكثر فاكثر (14).

إن الاستثناء العلماني الفرنسي يصطدم برأي عام اسلامي، بل وعالمي يستغرب تعامل فرنسا القاسي مع مسلميها. ويكظم المسلمون غيظهم من هذا التعامل ويخشون من مغبة توتر علاقاتهم مع فرنسا باعتبارها واحدة من اقرب الدول الغربية لقضاياهم المركزية وبخاصة فلسطين. وينتظرون بصبر أن يصلح السياسيون الفرنسيون سياساتهم. ومن الملاحظ أن هناك بالفعل نوعاً من التطور المهم قد حدث في نصف العقد الماضي. حيث اعترفت الدولة الفرنسية رسمياً بأن الاسلام هو الدين الثاني بعد الكاثوليكية، وبعد ان كان رئيسا الدولة والحكومة لا يعبآن بالجالية الإسلامية ولا يقدمان لها التهاني بأعيادها او يستقبلان ممثليها في المناسبات الوطنية كمثل ما يقومان به مع المسيحيين واليهود والبوذيين، أصبحا اليوم يعاملان الجالية الإسلامية كغيرها، وقد جعلا لها رمزياً على الاقل تمثيلاً سياسياً في الحكومة .. ولكن هذا التمثيل ما زال منعدماً في الجمعية الوطنية الفرنسية وفي مجلس الشيوخ، والمساعي ماضية إلى اصلاحه. وعلى الرغم من ذلك، فإن الوضع في انتخابات البرلمان الاوروبي يبدو مختلفاً، فقد فاز خمسة نواب مسلمين في البرلمان الأوروبي من مجموع 87 نائباً يمثلون فرنسا (15).

ويمكننا ملاحظة أن مشاكل الجالية الإسلامية على المستوى السياسي ما زالت كبيرة، وهناك قضايا لا تقبل التأجيل ومن بينها دفع السلطات السياسية لرفض العنصرية السائدة او منعها إزاء الإسلام والمسلمين في فرنسا .. فقانون فابيوس غيسو مثلاً يحيل أية جارح لصورة اليهود او تاريخهم للمحاكم، بينما يتغافل القضاء الفرنسي عن التشويه المتعمد لصورة الإسلام والمسلمين في الحياة العامة المتمثلة بالعمل والحياة اليومية والقضاء .. وأمثلة ذلك البطالة المتفشية في صفوف المسلمين بنسب هائلة تقدرها عالمة السكان الفرنسية ميشال تريبلا بـ40 بالمئة، بينما لا تتجاوز النسبة في صفوف الفرنسيين 8 بالمئة. وتعود هذه البطالة كما تذكر الباحثة نفسها إلى التوجهات العنصرية لدى عامة السكان الذي اعترف 69% منهم في استطلاع رأي عام أجراه معهد لويس- هاريس ونشرته صحيفة ليبراسيون في 16/3/2000 بأنهم عنصريون، وتذمر 63% منهم من وجود اعداد كبيرة من العرب في فرنسا، وقد ازدادت النسبة بالقطع بعد تفجيرات ايلول/سبتمبر. اما العنصرية القضائية إزاء المسلمين فهي من أبشع العنصريات واخطرها. إن ملفات القضاء تضج بمئات جرائم القتل العمد التي ارتكبت بحق العرب والمسلمين ولم يلق المجرمون عقابهم من القضاء الفرنسي، إلى درجة ان اتهمت منظمات حقوق الإنسان الدولية والفرنسية القضاء الفرنسي بالعنصرية .. لقد نشرت هذه الجمعيات تفاصيل خطيرة عن الجرائم العنصرية في مجلات مثل لونوفيل اوبسرفاتور وليزيكو دي لا سيتي وعدد خاص من مجلة بعنوان "الدولة تقتل: القتل العنصري في فرنسا"، وإلى جانب ذلك نذكر كتاب قتل العرب في فرنسا لفاوستو دوتشي الذي يحتوي على ملفات دامية بالاسماء والتواريخ والوثائق لأعداد كبيرة من الجرائم التي ارتكبها عنصريون فرنسيون وافراد من الشرطة بحق المسلمين، ومع ذلك افرج القضاء عن مرتكبيها لأسباب عنصرية.

هذا الكم الهائل من المشاكل التي تطرحها صورة الاسلام في فرنسا، هل يمكن أن تعالجه الطبقة السياسية الفرنسية؟ سؤال طرح أثناء الانتخابات الرئاسية والتشريعية الماضية وكانت أجوبة السياسيين عموماً إبداء موقف ايجابي من الإسلام والعمل على تجاوز الماضي، وهذه نماذج عنها:
1 ـ جاك شيراك (حزب التجمع من أجل الجمهورية): الإسلام هو نقيض الأصولية المتعصبة.. إنه إسلام متسامح ومسالم ومنفتح على تطورات العالم ورافض للتشنج والانطواء». وأضاف: «إنه إسلام يتمسك بالتوفيق بين تعاليمه وبين ما يحمله التمدن لكل منا من تقدم وعدالة. إنه اسلام التقوى والأخوّة». ودعا إلى إنجاز إنشاء هيئة تمثيلية للمسلمين في فرنسا، كما دعا إلى تمكين المسلمين من ان تكون لهم أماكن عبادتهم وأئمتهم (16).

2 ـ ليونيل جوسبان (الحزب الاشتراكي الفرنسي): إن الإسلام الذي يشكل الديانة الثانية من حيث العدد في فرنسا يجب أن يحظى بمكانة طبيعية ولائقة. والمؤمنون بحاجة إلى بنى تحتية واماكن عبادة جيدة حتى يتمكنوا من ممارسة معتقداتهم بحرية.. يجب أن تكون للمسلمين مساجدهم. كانت هذه المسألة لمدة طويلة من المحرمات، لكنني ألاحظ أن هذه المحرمات بدأت تسقط. وأشار إلى أن حكومته «بدأت منذ اكثر من سنتين مشاورات واسعة من اجل قيام هيئات تمثيلية للمسلمين في فرنسا». إن ذلك من شأنه أن يزود الاسلام بمتحدثين يمثلونه لدى السلطات العامة، على الصعيدين المحلي والوطني، إذ إن للإسلام والمسلمين حضورهم في المشهد الثقافي في جمهوريتنا»(17).

3 ـ جان بيار شوفينمان (حركة المواطنين) يقول: يجب الاعتراف بالإسلام طالما أصبح متأقلماً مع قواعد جمهوريتنا. لذلك لا بد من هيئة تمثل مسلمي فرنسا وتكون قادرة على التحاور مع الحكومة. هذه الاستشارة متواصلة طبعاً، وأتمنى أن تحقق أهدافها. إنني ارفض الرؤية التي تجمع بين اللاأمن والهجرة، وذلك لأن ملايين المهاجرين يقيمون في فرنسا بهدوء وكرامة. ينبغي الاهتمام بموضوع اللاأمن من زاوية أخرى، وهي قدرتنا على ادماج فئة عريضة من المجتمع تعاني اليوم من الاقصاء( 18).

4 ـ جان ماري لوبان (الجبهة الوطنية الفرنسية): يعادي برنامج الجبهة الوطنية بشكل صارخ الوجود العربي - الإسلامي في فرنسا، فهو يقوم على مبدأ الافضلية للفرنسيين والاوروبيين في كل المجالات: السكن، العمل والمساعدات الاجتماعية، العودة إلى تفتيش البطاقات الشخصية على كل نقاط الحدود، تنظيم عودة المهاجرين (اي العرب والمسلمين والأفارقة) إلى بلدانهم، إلغاء بطاقة الإقامة لعشر سنوات التي تمنحها فرنسا للأجانب المقيمين، وضع حد لكل تجمع عائلي، إلغاء الحصول الأوتوماتيكي على الجنسية الفرنسية، وقف كل تقاليد دينية منافية للصحة العامة والمقصود بها وقف ذبح الخرفان في الاعياد الإسلامية، وقف انتشار الجوامع.

5 ـ نوئيل مامير (حزب الخضر): على عكس الجميع ينفرد مامير بنظرة ايجابية جداً للهجرة والمسلمين حيث يطالب بإعطاء حق الانتخاب البلدي للمقيمين الاجانب على الاراضي الفرنسية. ويرفض بشكل قاطع كل أشكال العنصرية وتشويه صورة المسلمين. وحين قام بدعايته الانتخابية للرئاسة بدأها من حفلة في جامع باريس الكبير ..

6 ـ فرانسوا بايرو (الاتحاد من أجل الديمقراطية) يقول: لا بد من ان يأخذ الاسلام مكانته في فرنسا باعتباره الدين الثاني فيها، ولذلك فإنني أؤيد بناء الجوامع وأماكن الصلاة، كما أنني مع تدريب الائمة الفرنسيين وقيام مجلس تمثيلي لمسلمي فرنسا. إن الإسلام دين كبير، وإنني مقتنع بأن الغالبية العظمى من المسلمين تأمل بعيش إسلامها باحترام وانفتاح على الآخر (19).
تلك هي صور الإسلام في فرنسا كما يراها أبرز السياسيين الفرنسيين، وهي صور متفقة باستثناء واحد على الدور الذي ينبغي أن يلعبه المسلمون في حاضر فرنسا ومستقبلها. وبفعل كوني من المتفائلين بأهمية هذا الدور المتعاظم يوما بعد يوم للمسلمين في الغرب، فسوف أبرز في هذه العجالة صورتين لمستقبل الإسلام، ليس في فرنسا فحسب، وانما في أوروبا عامة ..، الأولى تبينتها عند دراستي الأهمية الاقتصادية للمسلمين في دول الاتحاد الاوروبي الـ 15، والثانية قدمتها كتلة برلمانية اوروبية عن الاهمية السياسية للمسلمين الاوروبيين في تقرير مستقبل أوروبا بشكل عام.

اقتصاد المسلمين الاوروبيين
أثناء اجتماع عقد في السابع عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 في بروكسل لقضاة ومديري أمن أوروبيين تبعه اجتماع لوزراء العدل والداخلية لدول الاتحاد الاوروبي في بروكسل بتاريخ 20 أيلول/ سبتمبر 2001 صدر بيانهم الختامي الذي اهتم بوضع الخطط لمراقبة المسلمين في دول الاتحاد. اعترف البيان بأن العدد الاجمالي للمسلمين في دول الاتحاد هو 30 مليوناً، منهم خمسة ملايين غير مسجلين رسمياً .. وهذه هي المرة الاولى التي يعلن عن مثل هذا الرقم الكبير لأن التقديرات كانت تدور حول 15 مليوناً على أكثر تقدير.

وفي حسبة سريعة عن دور الـ 25 مليوناً من المسلمين الاوروبيين المسجلين رسمياً تتبين لنا اهميتهم الاقتصادية التي هي مفتاح تطورهم وتأثيرهم السياسي. يبين الجدول التالي حالة دول الاتحاد السكانية وحصة الفرد الأوروبي من الناتج القومي الاجمالي لعام 2000 بحسب ما ورد في "حصيلة العالم " لعام 2000.

دول الاتحاد الاوروبي الـ 15

الدول

عدد السكان بالملايين

النمو الديموغرافي بالمئة

حصة الفرد من الناتج القومي الاجمالي $

المانيا

النمسا  

بلجيكا

الدنمارك

اسبانيا  

فنلندا 

 فرنسا

اليونان

ايرلندا 

إيطاليا

لوكسمبورغ 

 هولندة

البرتغال

بريطانيا

السويد

82

8،1

10،2

5،3

39،4

5،2

59،1

10،5

3،7

57،7

0،4

15،8

10

59،4

8،9

1،3

1،3

1،5

1،7

1،2

1،7

1،7

1،3

1،9

1،2

1،7

1،5

1،5

1،7

1،5

25850

26850

25380

33260

14080

24110

24940

11650

18340

20250

43570

24760

10690

21400

25620


المصدر:
Bilan du monde ( Paris :Le monde ,2000) p.36 .


يتضح من هذا الجدول أن متوسط حصة الفرد الاوروبي من الناتج القومي الاجمالي تقترب من 24 ألف دولار سنوياً، واذا ضربنا عدد المسلمين في أوروبا وهو 25 مليوناً بمبلغ 24 ألف دولار فسنجد ان حصة المسلمين الأوروبيين من الناتج القومي الاجمالي هي 600 مليار دولار سنوياً، أي مايعادل تقريباً الناتج القومي الاجمالي لدول الجامعة العربية كلها. وهو مبلغ سيزداد مع الوقت بفعل ارتفاع معدلات النمو الديموغرافي للمسلمين على متوسط النمو لدى باقي الأوروبيين. فلو جرى تنظيم هذه الجالية الإسلامية بالشكل السليم مع ما تمتلكه من حرية الحركة والوعي السياسي وحقوق المواطنة ومستويات التعليم المتقدمة، فسوف يكون دورها السياسي والاقتصادي أهم بكثير من دور الدول العربية لاعتبارات اهمها، انها تشكل ورقة ضغط سياسية واقتصادية في ثاني قوة في العالم وهي أوروبا .. وكما زرعت الجاليات اليهودية في الغرب وبخاصة المنظمة الصهيونية دولة إسرائيل في فلسطين فبإمكان الجاليات المسلمة في الغرب لعب الدور المعاكس الذي قد يحرر المنطقة كلها من الاستعمار والتبعية ويضمن لها تحالفات دولية هي في أمسّ الحاجة لها.

هل سيقرر المسلمون مستقبل اوروبا؟
في قمة نيس الاوروبية في كانون الاول/ ديسمبر عام 2000 اتفقت الدول الاعضاء على مبدأ التمثيل النسبي في مؤسسات الاتحاد على اساس العدد السكاني، فبعد أن كانت حصص الدول الكبرى مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا متساوية، أصبح لألمانيا التي يبلغ عدد سكانها 82 مليون نسمة الغلبة على كل من فرنسا وبريطانيا اللتين لم تتجاوزا بعد الـ 60 مليون نسمة لكل منهما. وقد اعتبر اعضاء المجموعة البرلمانية الأوروبية المسماة "أوروبا الأمم" أن المانيا انتزعت قيادة دول الاتحاد الاوروبي من فرنسا .. ومضى بيان "أوروبا الأمم" الذي نشرته صحيفة لوموند في التاسع من كانون الاول/ ديسمبر 2000 إلى أن ألمانيا تعيد اليوم أحلامها التوسعية الكبرى ببناء اوروبا من الاورال إلى الاطلسي لكي تصبح "أوروبا ألمانية"، فيكفي رفضها لأي قرار وهي تمتلك 17% من الاصوات في المجلس الاوروبي وتحالفها مع دولة كبرى مثل بريطانيا او ايطاليا لكي تحصل على الأقلية اللازمة لتجميده .. وهي تحاول اليوم توسيع الاتحاد نحو الشرق وتضغط على فرنسا لتسريع هذا التوسع الذي يضمن لها هيمنة كاملة على اصوات اغلب دول اوروبا الشرقية، وبالتالي على اوروبا .. اما كتلة نواب من يسمون انفسهم بالسياديين (أي الذين يطالبون ببقاء سيادة الدول الاعضاء الوطنية مستقلة) فيرون بأن "النوايا الالمانية مخيفة وتوسعية"..

إن الخلاف حول التمثيل على أساس الكثرة السكانية فتح المجال امام التوجهات العنصرية التي بدأت تعبر عن مخاوف وهمية .. إذ ادّعت كتلة "اوروبا الأمم" في بيانها أن "العمل وفق معيار الوزن الديموغرافي سيشكل خطراً كبيراً على مستقبل أوروبا، لأنه سيجعل من تركيا تقرر مصير أوروبا عام 2020. وقد صاغ هؤلاء هذا القول على نظرية تقول إن خبراء الإحصاءات السكانية يقولون إن عدد سكان المجتمعات الإسلامية يتضاعف كل عشرين سنة، بينما تعتبر احصاءات الامم المتحدة أن أقل نسبة ولادة للاطفال في العالم هي اليوم في اوروبا، اذ تتراوح ما بين 2,1 إلى 2 طفلين لكل امرأة، مما يعني تناقصاً تدريجياً في اعداد الاوروبيين. وبما أن عدد سكان تركيا الحالي هو 66 مليون نسمة، فإنه سيتضاعف بعد عشرين عاماً إلى 132 مليون لتكون أكبر الدول الاوروبية قاطبة.
فإذا ما انضمت الدول الإسلامية البلقانية مثل ألبانيا (3,5 مليون نسمة) والبوسنة (8,3 مليون) إلى الاتحاد الاوروبي، فسيصل عدد سكان الدول الإسلامية في الاتحاد ومنها تركيا إلى 2,73 مليون نسمة من دون احتساب كوسوفو، يضاف إلى هذا العدد المسلمون المقيمون في دول الاتحاد، والذين سبق ان قدرهم بيان وزراء العدل والداخلية الاوروبيين بـ30 مليون نسمة، فسيصبح المجموع هو 2,103 مليون نسمة. وطالما ان المسلمين يتضاعفون كما يقول بيان "اوروبا الامم" كل عشرين عاماً فسيصبح العدد الاجمالي عام 2020 هو 4,206 مليون مسلم أوروبي. ويستنتج هؤلاء من هذه الارقام أن القرار السياسي في اوروبا المستقبل سيصبح مرهوناً برغبات المسلمين. وهكذا تنتقل اوروبا من كونها مشروعاً فرنسياً لكل أوروبا إلى مشروع توسعي ألماني في الأمد القريب، ومن ثم لتقدم أوروبا في نهاية المطاف على طبق من ذهب للمسلمين لكي يقرروا مستقبلها بالتحالف مع الألمان.

وبطبيعة الأمر فإن هذه المخاوف ليست بالشكل الذي تقدم به، وحقيقة النمو الديموغرافي للمسلمين في أوروبا لا تتضاعف بهذا الشكل المبالغ فيه، ولم يفكر أحد من المسلمين او الألمان في تحالف، ولا يهدف الحديث عنه الا إلى إثارة مخاوف وتحريضات شوفينية. ولكن الواقع الذي لا ينكره أحد قط، هو ذلك التطور المهم لحجم ونوعية المشاركة السياسية المسلمة في أوروبا المستقبل. ومن هنا تستدعي الحاجة إلى العمل الجاد لمزيد من اندماج الجاليات الإسلامية في الحياة الاوروبية، نقول اندماج وليس انصهار، فالاندماج مطلوب، لأنه يجعل من الثقافة الإسلامية مكوناً اساسياً في الثقافة الاوروبية، اما الانصهار فهو ضياع للثقافة الإسلامية وللهوية كلياً.

والسؤال المطروح اليوم بإلحاح هو: هل سيتمكن المسلمون الأوروبيون، بدعم من بلدانهم الاصلية، من تشكيل صورة افضل للاسلام والمسلمين في أوروبا والغرب عامة؟ (**)

المصادر:
1) Herbert Marcuse, Eros et civilisation, Paris, Ed. Minuit, 1963, p.102.
2) Chateaubriand, Correspondance générale 1789-1807, Paris, NRF, 1987, p. 304.
3) قيس جواد ، تطور الصورة الغربية للشرق ، دراسات شرقية .ع 2 ص 75 .
4) Waardenburg, L’Islam dans le miroir de l’Occident, Paris, Mouton–La Haye, 1962, p5.
5) Etienne Bruno, La France et l’Islam, Paris : Hachette,1989 ,p183
6) Marguerin et Hubault :Histoire des Temps modernes ,Paris : Dezobry ,E .Magdelien et Cie ,1854 .
7) Ahmed Kedidi, L’image de l’Islam en Occident – L’image de l’Occident en Islam, Paris, Ed. Eurabe, p. 199.
8) مارلين نصر، صورة العرب والاسلام في الكتب المدرسية الفرنسية (بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية، 1995) ص 28 و55 و56.
9) مارلين نصر، المصدر نفسه، ص 136
10) Voire entretien avec Edgard Morin , Mars No 6 , Paris :1996
11) Sadek Sallam, L’Islam en Occident, colloque organisé par CEC, Paris 1994.
12) Michel Renard, L’Islam en Occident .
13) Thiéry Desjardins, Lettre au Président à propos de l’immigration . Paris :Fixot,1996 .
14) لا يوجد احصاء رسمي لعدد الجالية الإسلامية في فرنسا ( الاحصاءات الفرنسية لا تتم على اسس دينية او عرقية) ولكنها تبلغ استناداً إلى تقديرات مديرية حراسة الحدود التابعة لوزارة الداخلية الفرنسية قرابة ستة ملايين مسلم مقيم على الاراضي الفرنسية. وتمتلك حجماً تصويتياً في الانتخابات يقدر بـ مليون و800 ألف صوت .
15) فاز في انتخابات البرلمان الاوروبي عن فرنسا 87 نائباً خمسة منهم مسلمون وهم: 1ـ حليمة بومدين (عن حركة الخضر)
2 ـ ياسمينة بو جناح (عن الحزب الشيوعي)
3 ـ سامي نائير (عن حركة المواطنين)
4 ـ توقية سيفي (عن حزب التجمع من اجل الجمهورية)
5 ـ فودي سلاح (مسلم سينغالي عن الحزب الاشتراكي)
ومنذ سنوات فاز اكثر من 500 مسلم في الانتخابات البلدية كمستشارين بلديين من مجموع نصف مليون . وفي الانتخابات البلدية المقبلة سيتضاعف العدد بالقطع نظراً للاهتمام المتزايد للمسلمين بالسياسة .
16) الشرق الاوسط 11/ 3/2002.
17) الشرق الاوسط 10/4/2002.
18) France présidentielle 2002,Arabies ,mars 2002 .
19) المصدر السابق نفسه .

__________________

(*) طرحت مشكلة الحجاب مؤخراً في بلجيكا ولكن بشكل مغاير طبعاً، فقد أوردت صحيفة الشرق الاوسط (4/12/2002) الخبر المعبّر التالي: حضرت وزيرة الشؤون الاجتماعية في الحكومة الفلامنكية ميكا فوخلز حفلة افطار جماعي بمشاركة عدد من السيدات من الجاليات المسلمة الموجودة في بلجيكا. وعقب نشر صورة الوزيرة البلجيكية وهي ترتدي الحجاب مع السيدات المسلمات تعرضت لهجوم عنيف من جانب وسائل الإعلام ووصل الأمر الى مناقشة الوزيرة داخل البرلمان حول ارتدائها الحجاب. وتعرّضت الوزيرة لهجوم من زملائها داخل البرلمان الفلامنكي. ودافعت الوزيرة عن موقفها قائلة: «لقد شعرت بالرعب من هذا الهجوم على الصورة التي نشرت لي وأنا ارتدي الحجاب مع سيدات مسلمات». وتساءلت الوزيرة: هل سيكون هذا هو رد الفعل اذا ما قام احد السياسيين بزيارة للجالية اليهودية وارتدى الطاقية التي يرتديها أبناء اليهود المقيمون في بلجيكا؟

(**) أنا أطالب كل الفعاليات الإسلامية في فرنسا ان تطالب بدمج المسلمين في الحياة الثقافية الاوروبية وان يساهموا في كل مكان. اقول تندمج ولا اقول تنصهر لأن الانصهار هو التخلي عن الهوية، لكن الاندماج هو الفعالية السياسية اليومية التي جعلت الآن كل الاحزاب السياسية الفرنسية تستعين بمسلمين وبمسيحيين ايضاً عرب، في قياداتها. اقول هذا لأننا لا بد ان نجعل الثقافة الإسلامية مكوّناً اساسياً من مكونات الثقافة الاوروبية، وآمل ان نستطيع ان نحسن كثيراً في صورة الاسلام والمسلمين في اوروبا، وآمل ايضاً الدعم من الدول العربية والإسلامية لهذا الجهد.

____________________

تقديم معالي الدكتور علي الخليل

الموضوع الثاني في جلستنا هذه هو الاستراتيجيات الغربية من خلال الإعلام.
محاضرانا في هذا الموضوع هما الأستاذ منير شفيق والأستاذ محمود حيدر.