مداخلة الاستاذ رفيق نصرالله

الرئيسية إصدارات كلمة سواء مؤتمر "كلمة سواء" السابع: الذات والآخر في الاعلام المعاصر

اليوم الثاني - الجلسة الرابعة

الإعلام العربي والآخر
الأستاذ رفيق نصر الله

ايها الإخوة والأخوات،
أصبح الإعلام شريكاً مباشراً في صناعة القرار السياسي تحت مظلة التحول الاستراتيجي ضمن منظومة العولمة، ودخل الإعلام كعنصر من عناصر تكوين ميزان القوى.

ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إنه إحدى القدرات الاستراتيجية التي باتت في جوانب منها توازي الامكانات العسكرية او هي استكمال لها (1).

ولدينا تجارب عديدة لمعظم حروب نهايات القرن الماضي وبداية القرن حيث باتت هذه الحروب في جوانب منها حروباً اعلامية بأدوات عسكرية او العكس.

هذه الحروب التي لها صورتها ولغتها واهدافها وعناصر تكوينها المرئية، بحيث نشأت العلاقة بين الآلة العسكرية واللغة المشهدية الإخبارية، وباتت هذه العناصر التقنية المتقدمة جزءاً من التحولات، وصناعة القرار ورسم الخرائط، وحتى تحديد الشروط المسبقة لأي حرب.

ولا نغالي ايضاً إذا قلنا إن صناعة القرار السياسي، وحتى الاستراتيجي، هي نتاج لما يقوم به سلاح الإعلام ...

أين نحن من كل ذلك؟ ...
هل التحول الذي طرأ على إعلامنا العربي هو تحول واعٍ وإرادي، ينطلق من هذه المفاهيم، وخاصة أننا نواجه استحقاقات كبيرة ولدينا قضية تملك كل هذا الصخب العالمي والإقليمي والمصيري والوجودي كالقضية الفلسطينية وقضايا أخرى ليست اقل خطورة وأهمية؟

هل التحول الذي طرأ على بعض إعلامنا العربي امتلك عناصر الرؤية الاستراتيجية، أم انه مجرد انعكاس فرضه انكشاف الفضاءات العربية امام الآتي من الخارج...

هل امتلكنا الارادة الذاتية الواعية للتغيير، ام أن الآخر بكل مقومات التحول التقني هو الذي يدفعنا لتغيير لا نملك إرادة ذاتية واعية لتحديد مساراته؟

كيف نقيم إعلاماً متقدماً، متطوراً، منفتحاً ليتبنى قضية قومية كبيرة ... كالقضية الفلسطينية مثلاً، وهي جوهر قضايانا ...فيما الامة تزداد تجزؤاً وتمحوراً وانهياراً سياسياً في الموقف، وانكساراً في المواجهة، وغياباً لأي خطة واضحة في المواجهة التي نفقد قدرة تحديد خياراتنا الواضحة حيالها؟

كيف يقوى هذا الإعلام فيما الموقف السياسي يضعف!؟

كيف نخاطب الآخر؟ ... ولماذا لا نزال ضمن الغرفة الإعلامية العربية الضيقة؟

كيف يكون هذا الإعلام شريكاً يثبت حضوره في عالم تضيق مسافاته، فيما نحن لسنا شركاء في هذا العالم بالمستوى السياسي والإنساني التفاعلي؟

كيف نتفق على اعلام عربي موحد الرؤيا ... ليتبنى قضية فلسطين فيما نحن نختلف على فلسطين ... وربما على كل القضايا؟

ولكل واحد منا فلسطينه ورؤيته ولغته ... ولكل واحد منا في النهاية إعلامه.

كيف يمكن أن يكون الإعلام جزءاً من سلاح المواجهة ونحن لا ننفق جميعاً كعرب اكثر من 15 بالمئة مما تنفقه أي دولة متقدمة على إعلامها، بل أي مؤسسة واحدة؟

لا تشكل ميزانيتنا الإعلامية، رغم كل هذا الحشد، ربما ميزانية محطة اعلامية عالمية من هذه المحطات التي كشفت فضاءاتنا، وصارت شريكة في حضورها في خرائطنا.

ومع هذا ... ورغم الاسئلة الصعبة والمرة احياناً، وما أكثرها، لا بد من ان نعترف بأن تحولاً لافتاً ومهماً شهده الإعلام العربي نسبياً، وتحديداً المرئي منه، خلال السنوات الخمس الماضية، وأن نعترف بأن بعض هذا التحول قد لعب دوراً متقدماً نسبياً على مستوى دعم قضايانا، ومنها قضية الشعب الفلسطيني، وصار جزءاً من المواجهة، وجزءاً من القضية ... وإن كان دون مستوى ما نطمح، لكنه فعل شيئاً ... ويكاد يكون الفعل العربي الأساس.

إن بعض اعلامنا العربي ... فعلاً ... يعيش حالة انقلابية على كل النمط الذي كان سائداً ... ليكون إعلاماً مباشراً ... وأن يكون جزءاً من الحركية السياسية للقضية الفلسطينية إذا اخذناها كنموذج ...

وأن نسلم فعلاً بأن اعلامنا العربي يلامس حركة التغيير وربما جاءت يوميات القضية الفلسطينية لتساعد في تسريع التحول ...

او هي خلقت ظروفاً ميدانية لهذا التحول ، إلى جانب أسباب أخرى ...

ولكن ... لنتفق أولاًُ... على أن الإعلام العربي ليس إعلاماً موحداً ... ولا هو في بنيويته إعلام مشروط في التوحد ... بمعنى أن مؤسساتنا الإعلامية لم تؤسس لتكون موحدة وواحدة أو تحمل بذور التوحد بقدر ما حملت بذوراً مكانية قطرية.

هذا ما يقوله الواقع وتقوله التجربة والممارسة.

إنه اعلام النماذج المتحركة حول القضية ... ولكل نموذج خصوصية.

وهو اعلام يأتي من نتاج سياسي سائد وقائم ... (2)

وكما هو الواقع السياسي المجزأ في حركته، المتأطر حول عنوان القضية في جدليتها ... كذلك هو الإعلام العربي الآن، نتاج لواقع منفصل نحو ذاتيته ... له الخصوصية والمحورية.

في العناوين:
هو إعلام في الطموح والوجدان والنوايا ... يملك فعلاً صفة جامعة أي ما نتفق على تسميته بالإعلام العربي ... لكن في الواقع هو إعلام لمؤسسات ... عربية تحت مظلة الانتماء، ويجب أن ننظر إلى هذا الواقع بجدية وواقعية من دون ان نذهب بعيداً في الرهان على انه سيكون غير ذلك. لهذا هو إعلام ضيق في مناطقيته ... ضعيف في عالميته.

في الواقع هو إعلام عربي نطمح لأن تكون لـه هويته ودوره واغراضه، تماماً كالشعار السياسي العربي العام الذي تحتضنه مؤسسة جامعة الدول العربية ... إعلام موحد الرؤية كما في توصيات مجلس وزراء الإعلام العرب التي نرددها كل عام ...

لكنه في جغرافية الواقع إعلام انعكاسي للجغرافية السياسية العربية في كل تجزؤاتها ... يتمايز ويتأطر، ويدور في فلكية خاصة وفق تجارب متناقضة احياناً.

وهو تطور ضمن هذه المنظومة في حلقات لا يمكن أن تتحول إلى حلقة واحدة تماماً الا في الاطار العام خاصة حيال القضية الفلسطينية.

إن لدينا اكثر من إعلام عربي ... وأكثر من هوية إعلامية عربية ... واكثر من تجربة إعلامية عربية، وأكثر من خيار ... واكثر من لغة إعلامية عربية ...

ونكاد نقول إنه داخل كل محطة أو وسيلة اعلامية لدينا اكثر من قضية فلسطينية واحدة ... انه الخطاب الإعلامي المتشظّي في هويته. وفي تناولنا لتعاطي هذا الواقع الإعلامي العربي مع القضية الفلسطينية.

- حسم الخيارات
إن الإعلام العربي في واقعه الآن ... هو إعلام التجارب التي لم تحسم خياراتها بعد... وإعلام لم يحسم العلاقة النهائية بين رسميته وخصوصيته ، بين انعتاقه من النمطية التي نشأ عليها منذ مطلع الخمسينات في القرن الماضي إلى هذا التمرد الذي يمارسه بعض اعلامنا العربي على هذه النمطية في حركة قد تكون زلزالية فعلاً في سياق البحث عن الانماط الجديدة المتأثرة بكل ما يجري حولنا من تجارب.

هو اعلام يتحول ... ولم تنته بعد مرحلة التحول ... لهذا لا يمكن الحكم عليه لا لجهة أنه بات كياناً متكاملاً يمكن توصيفه وتحديد مساراته خاصة في علاقته بالقضية الفلسطينية، ولا هو خرج نهائياً من السائد الموروث في لغته وهويته السياسية في هواجسه ومخاوفه وقيوده. إنها حالة مخاض مبررة في سياق التحولات التي نمر بها.

إن القضية الفلسطينية ... قضية حيّة في وجدان كل عربي ... وقضية انتماء ... وقضية تطال الهوية القومية والوطنية ... وقضية الانتماء الثقافي والجدلي، والعقائدي ... هي قضية يومية للانسان العربي، وبالتالي هي قضية اساسية في الخطاب الإعلامي العربي في مواقعه كافة.

لهذا نقول، إنه وكما أن القضية الفلسطينية هي جوهر قضايانا القومية والوطنية، كانت هذه القضية ومنذ بداياتها في الأربعينات قضية الإعلام العربي مع تعددية الخطاب الإعلامي العربي، مع نسبية نجاح هذا الخطاب أم فشله.

لقد كان الخطاب الإعلامي العربي وحتى الثمانينات هو خطاب المقالة والاذاعة، خطاب الموقف السياسي الذي تعكسه الوسائل الإعلامية العربية، بكل رسميته ورقابته وتبعيته وانغلاقه وانفعالاته وعواطفه وحماسته أحياناً ... كان خطاباً تعلّبه وتعده الأجهزة ويتلقاه الفرد العربي كما تشتهي السلطة ...

كانت المسافة بعيدة بين الوسيلة الإعلامية والفرد العربي.

ولا اريد الغوص في خلفية تاريخية عن تلك المرحلة، لكن أذكر هنا على انه ورغم كل التناقضات وعشوائية الخطاب الإعلامي العربي وكل التناقض الذي كان يحكم تلك المرحلة، الا ان القضية الفلسطينية كانت حية في الذاكرة الإعلامية العربية. هي القضية التي يتمحور حولها النبض السياسي والإعلامي والعقائدي.

الإعلام العربي في مرحلة الستينات، ورغم كل التناقضات السياسية العربية، ورغم كل المرارات، ورغم كل الانغلاق، ورغم انه كان اعلاماً موجهاً ... كان اعلاماً حاضناً للقضية ورغم انه كان لكل موقع اعلامي عربي طريقته وأسلوبه، وتوجهاته وتوجيهاته ومحوريته، ولكل إعلام فلسطينه ... وبعض هذا الواقع لا يزال سائداً ...

كانت القضية حيّة فيه، وان بدا انهماك هذا الإعلام الرسمي بالشخص والنظام والمحاور والخلافات ... لكن فلسطين كانت المفصل دائماً، وهذه ميزة لا يمكن اغفالها.
لم تغب فلسطين عن الأذن العربية في تلك المرحلة وعن الوجدان، وربما لعبت الصحيفة دوراً مهماً في ذلك، إلى جانب الاذاعة، وانسحب هذا الواقع حتى الثمانينات تلفزيونياً لكن كانت بوادر تحوّل تقترب من الخارطة الإعلامية العربية.

لقد تربينا على العلاقة مع القضية من خلال الاذاعات العربية في القاهرة ودمشق وبيروت وغيرها، ومن خلال الصحيفة العربية عبر مقالات لرموز الصحافة اليومية العربية. لم تمت هذه القضية... ظلت حيّة في إعلامنا وإن كانت غير ذلك في الموقف السياسي.

الوضع اختلف مع اختلاف المعطيات ومع التقدم التكنولوجي والتأثر بالتجارب الخارجية وقيام جيل اعلامي جديد، وتبدل الانماط والاساليب والمراحل والاستحقاقات مع بدء استخدام الاقمار الصناعية، مع تطلع جيل عربي يبحث عن حرية التعبير والرأي.

الإعلام العربي في مرحلة الثمانينات والتسعينات بدأ يبحث عن أجوبة صعبة وحائرة في ظل تحولات كان يتحسس في التعاطي معها او الاقتراب منها سابقاً.
لقد أحدثت استحقاقات كبيرة صدمة لدى بعض المواقع الإعلامية العربية التي وفر لها ان تخرج من طوق رسمية هذا الإعلام، وربما بعد التغطية الإعلامية لحرب الخليج، صار من الصعب الاستمرار في الحفاظ على ايقاع الخطاب الإعلامي العربي على ما كان عليه.
صارت أي حرب بمتناول اليد، صار المشاهد شريكاً في الميدان ... قريباً من القرار ... من العقل وردات الفعل. لقد حدث الزلزال فعلاً.

- ملامسة التحول
لقد حصل اهتزاز ليس لدى الإعلاميين العرب، بل لدى الرأي العام العربي الذي بدأ يضغط باتجاه إحداث التحول، وجاءت استحقاقات كبيرة كتنامي الانتفاضة لتحدث التحول فعلاً، في وقت كنا نشهد فيه غزواً فضائياً عالمياً لكل بيت عربي ... ولم يعد فيه احد قادر على ان يبقي المكبوت السياسي لدى الفرد العربي على ما هو عليه ... بدأت النواة تكبر، فيما كان الوطن العربي يشهد استحقاقات كبيرة خاصة على مستوى القضية الفلسطينية.

صارت الانتفاضة مثلاً مادة يومية في وسائلنا الإعلامية اريد لها ان تبحث عن عناصر تميزها.
بدأ الانعتاق من صورة الآخر التي كان يبثها لنا ... من تقرير الآخر الذي كانت تنقله الوكالات العالمية والإقليمية.

وجاءت تجربة تصوير عمليات المقاومة في جنوب لبنان لتؤكد القدرة على التميز (3) في وقت ارتفعت فيه اصوات جريئة في عواصم عربية بدأت تبحث عن مستوى معين من حرية الإعلام العربي ... ومن حرية التعبير ...

ومن محاولة الانعتاق من رتابة النشرات ورتابة أخبار النظام والرموز ...

وخرجت طليعة، ولو محدودة، خاضت غمار التجربة الصعبة ولعب بعض الإعلام الخاص دوراً في تعزيز الجرأة على اجتياز التجربة وعلى إحراج الإعلام الرسمي الذي كان عليه ان يحسم خياراته.
وكل هذا كان يتمحور حول القضية الفلسطينية بكل تجلياتها ...

ولأن القضية الفلسطينية هي الجوهر، ساعد الانتماء للقضية على ان نجتاز المرحلة الصعبة.

فجأة ومع تنامي مقومات هذه المحطة أو تلك، مع تنامي التنافس المبرر، مع تنامي الإمكانيات، مع تزايد استخدام الاقمار الصناعية، مع تنامي اهتمام الرأي العام العربي، تبلورت ملامح التجربة التي لا نزال فيها، خرج الصوت الفلسطيني الذي يذهب ليرمي حجراً على دبابة او جندي ...

صار مادة حية نابضة ويومية في الشاشة العربية، باتت اصوات الصبية متداولة كفارس عودة، محمد الدرة، إيمان، وغيرهم ...

فجأة نشأت علاقة مباشرة ما بين الشارع الفلسطيني والشارع العربي متجاوزاً العوائق الرسمية العربية التي كانت تحول دون هذا التواصل.

لقد خاض بعض الإعلام العربي تجربة البحث عن تجددية تفرضها التبدلات المتأثرة بثورة التقنيات وتبعات العولمة وغزو الآخر، وكل هذا الصخب الذي يضغط بكل اتجاه ساعدنا على الانعتاق من واقع اعلامي مكبوت تماماً، كما هو الواقع السياسي المكبوت والذي ما زال بعضه قائماً.

- تجاوز الواقع السياسي
اعلامنا العربي في تعاطيه مع القضية الفلسطينية تحديداً ... تجاوز الواقع السياسي العربي ... وهذه ظاهرة ملفتة ... تمرد في بعض الاحيان على السقف السياسي العربي، على المحظور السياسي العربي ... رغم عشوائية بعض التجارب وعفويتها وشبهة البعض أيضاً، كان اقرب إلى لغة الشارع وانفعالاته وما يريد ...

هذا الشارع اكثر ما هو اقرب من النظام السياسي حتى في بعض المؤسسات التي لا تزال مملوكة رسمياً ... إننا لا نزال نلحظ مسافة واضحة بين الموقف الرسمي السياسي لهذه العاصمة او تلك وبين اللغة الإعلامية والدور الإعلامي لهذه المحطة او تلك، والتي تبث من نفس العاصمة ...

اننا في استحقاقات وفي مراحل الانتفاضة ومنها (الجدار الواقي) كانت بعض المحطات العربية محطات فلسطينية بحتة ... تجاوزت في أدائها حكماً التلفزيون الفلسطيني الذي لا يملك امكانيات هذه المحطات وتلك التي خصصت جهداً مادياً لافتاً.

في نهاية التسعينات ... يمكن أن نقول إن بعض إعلامنا العربي اقترب من بعض الواقعية ومن البحث عن موقع اكثر اقتراباً من قضية الفرد ... لقد ألقت بعض التجارب قنابل صوتية تركت صداها في الشارع العربي الذي وجد في بعض التجارب ما يخاطب المكبوت فيه.

لكن في النهاية هو يخوض تجربة التحول ...

المواطن العربي بات على مقربة من مرجعية بعض إعلامنا العربي في تعاطيه مع القضية الفلسطينية بما يتجاوز تعاطي النظام السياسي العربي او الخطابي او الموقف السياسي العربي مع هذه القضية.

تقاربت الشوارع العربية ... تشابهت الشعارات، والمظاهرات ... صارت المحطات شريكة في الانتفاضة ألم تقلق الإسرائيليين وحتى الاميركيين ... والا لماذا سارعوا إلى انشاء محطات عربية الآن ... يريدون انقلاب الصورة ... صورة ما هو قائم بعدما كشف الإعلام العربي الصورة عن قرب ...
ان اهم ما قام به بعض اعلامنا العربي أنه كشف فلسطين امامنا ... صرنا شركاء في كل شارع ومخيم ... ودخلنا البيوت والسيارات ، وصرنا أقارب.

ان بعض الإعلام العربي ... هو الذي بدأ يصنع لغة الشارع العربي ... وربما حركية الشارع العربي ...

صار هو المحرض، صارت الصورة المباشرة هي البيان السياسي الذي يحرك هذا الشارع ويحرض قواه، وربما الخطاب السياسي لبعض قوى الشارع العربي التي وجدت نفسها قادرة على ان تخرج للعلن، وتمارس كل هذا الصخب الإعلامي – السياسي عن قصد أو غير قصد، وهي التي كانت مكبوته في الماضي ضمن مساحات التعبير الضيقة.

تجاربنا الإعلامية العربية، ومنذ منتصف التسعينات ... تمردت على ذاتها ... خرجت من محظوراتها ... صارت اكثر اقتراباً من حاجات الفرد ... من مخاطبة المكبوت السياسي لدى الفرد العربي بكل تجلياته ...

تجاربنا الإعلامية العربية الجديدة كسرت عنق الرقابة، رقابة النظام السياسي ... ورقابة الخوف فينا من هذا النظام ... كسرت المحظور ... وما أكثر المحظورات ...

تجاربنا الإعلامية العربية الجديدة ، انشأت جيلاً جديداً من الإعلاميين الميدانيين ... وهذا كله برأيي، بفضل قوة الحدث الفلسطيني الذي صار في مرحلة من المراحل هو مادة حيّة ربما في حجمها هي اكبر من قدرة بعض المحطات على استيعابها.

لقد سقط مفهوم الإعلام الموجه من وراء المكاتب، ومن تعاميم الاجهزة الرقابية والمخابراتية التي كانت تعمم مفاهيم سياسية محددة حتى حيال القضية الفلسطينية.

سقطت مفاهيم الاعتماد على الوكالات الاجنبية بما تبثه وتلقّنه.
وسقطت مفاهيم الرموز الإعلامية، او النجوم الإعلاميين الكبار، صار المراسل الميداني هو النجم الحقيقي ... للمحطة وللحدث.
وبقدر ما تملك هذه المحطة او تلك صدقية في حضورها عبر هذه الطليعة الميدانية البشرية والقدرات التقنية والرؤيا ... بقدر ما هي حاضرة الآن على الخارطة ...

ولكن ... ولكن كل هذا لم يرق إلى مستوى العالمية. لماذا؟

ليس اعلامنا العربي بحضوره الدولي طموحاً لدى النظام السياسي العربي ...
ليست ثقافة الأنظمة السياسية العربية ولا حتى ثقافة القوى السياسية العربية بمستوى توظيف الامكانيات المالية الكبيرة في تثبيت حضور إعلامي دولي.

تأخرنا في حجز أماكن لنا في خارطة البث الفضائي العالمي باتجاه أوروبا، او حتى للولايات المتحدة الاميركية وغيرها، فيما كانت الصهيونية بكل ما تملك تجتاح هذه الخارطة.

لم نشكل نواة إعلاميين بإمكانهم مخاطبة الآخر بلغة ترقى إلى مستوى الجدل ومستوى الإقناع.
لا يمكن صاحب قضية لا يقاتل من اجلها أن يصنع كذبة إعلامية عالمية مقنعة.
لقد فشلت المنظمات العربية عالمياً في ان تمتلك مؤسسات اعلامية في الخارج بمستوى التحدي، سواء على مستوى الصحيفة او الاذاعة او المحطة التلفزيونية.

ليست الوسائل الإعلامية هاجساً عند اصحاب رؤوس الاموال العرب في الخارج، فيما هي في الداخل العربي هاجس نرجسي لهذا او ذاك، خدمة لموقع سياسي ضيق وليست لقضية كبيرة كما هو الحال عند الآخر.

ما زلنا في أسس ثقافتنا الإعلامية نعاني تبعية الآخر. والذي يفرض علينا نهجاً واسلوباً وادوات، ونعاني عدم صدقية وسائلنا احيانا ...

ان الإسرائيلي داهمنا ليس فقط عبر محطات الآخر بل عبرنا نحن.
ان الإسرائيلي لا يزال يقاتلنا إعلامياً بإمكانيات عالية، فيما نحن نواجهه بامكانيات متواضعة (4) (البحث عن 15 مليون دولار في مجلس وزراء الإعلام العرب).

الإسرائيلي، ومعه الغرب، يملك حيزاً كبيراً من وسائل اعلام مؤثرة في العالم، ونحن نختلف وعلى الورق على هوية وشكل وادارة محطة عالمية نطمح إلى قيامها، ولم تقم بعد.

إن الآخر وزع حضوره في نسيج كل المحطات العالمية المؤثرة ، فيما نحن نعاني من غياب كامل.
لم نسعَ إلى شراء وكالات عالمية او توظيف المال العربي فيها (5).

إن لغة إعلامية عربية جديدة لم تنشأ بعد لتواكب التقدم التقني الذي بدأت تمتلكه محطات عربية ، والدور الذي تقوم به لخدمة التغطية. وكأن التقنيات داهمتنا وروح المنافسة استدرجتنا فانزلقنا اليها وامتلكنا الامكانيات ، لكن لم نسارع إلى مواكبة ذلك بلغة إعلامية عربية جديدة.

إن كمّاً كبيراً من المراسلين الميدانيين وتحديداً على الساحة الفلسطينية يستخدم لغة واحدة متشابهة، وتكاد تكون استنساخية في الكثير من الاحيان، فيما الواقع يحتاج إلى لغة حيّة جديدة.

إن وهم المنافسة أوقع الكثيرين في منزلقات سياسية خطيرة كان الإسرائيليون وراء تسريبات بعضها، والامثلة كثيرة. وهذا يعني أنه لا بد من سدّ هذه الثغرة بالوعي السياسي وحصانة عدم الانزلاق تحت وهم المنافسة إلى ان يكون بعض ما نعرضه يخدم العدو عن غير قصد.

إن الإسرائيلي الذي يظهر في بعض شاشاتنا يتحدث بلغة واحدة مدروسة وهدف مدروس، فيما يكون خطاب الفلسطيني الذي يظهر في شاشاتنا خطاباً متناقضاً، انفعالياً، عشوائياً ... وفي بعض الاحيان يسيء إلى القضية اكثر مما يفيدها ... وهذا يعود لعشوائية الاختيار لدى هذه المحطة او تلك.

وعايشنا هذا الواقع منذ بداية خطة الجدار الواقي وحتى الآن.

إن تجاربنا دلت على أن مفهومنا وتعاطينا مع كل تطورات القضية الفلسطينية هو تعاطٍ اخباري فقط، يشدنا الخبر ولا ندخل في نسيج ومفاصل القضية.

القضية ليست فقط في كم الشهداء الذين يغتالون اليوم، في الحصار فقط ... في الاشتباك فقط...
هناك مفاصل اخرى ... يجب على الإعلام العربي - لتبقى قضيتنا حيّة - ان يلج اليها تماماً مثل الإعلام الصهيوني الذي دخل في نسيج كل وسائل البث في الغرب حتى في السينما والصحيفة وحتى في وكالات الاعلان.

فلسطين مثلاً ... قضية كاملة، ويجب ان تكون عناصرنا الإعلامية مع قضية كهذه كاملة أيضاً.


اين قضية الاسرى الفلسطينيين؟ الواقع الاجتماعي الفلسطيني؟ الواقع الثقافي؟ الطفل الفلسطيني؟ التحولات الاجتماعية والديمغرافية؟ فلسطينيو الشتات وما يعانون؟ العديد من الملفات الاخرى.

اين الوثائقي؟ اين البعد الإنساني؟ اين توظيف كل ذلك في برامجنا، في كل ما نبثه عبر شاشاتنا؟

لماذا لا تظهر فلسطين إلا في نشراتنا ... خبراً دامياً أو عملية عاجلة وانتهى؟

ان اعلامنا العربي الراهن ... لا يزال إعلام الغرفة العربية الضيقة ... هو أبقى جزءاً من القضية الفلسطينية حياً مع اقترابه من نبضها ... لكنه لم يخرج من هذه الغرفة التي نغطيها عبر الاقمار الصناعية ليكون إعلاماً عالمياً.

إن اعلامنا العربي هو إعلام مرحلي آني في مراحل معينة... يستفزه الحدث ليستنهض نفسه وأحياناً في عشوائية واضحة غير مدروسة، ثم يخبو عندما يفقد الخبر الفلسطيني بريقه. وكأن مشهد الموت الفلسطيني احياناً هو الذي يشد هذا الإعلام الذي يصمت احياناً بلا أي مبرر.

- لا توجد خطة اعلامية عربية حاضنة رغم النوايا المؤسساتية الرسمية العربية التي تدعو لذلك، وتترجم الدعوة لمقررات رسمية تظل كما هو واقع المقررات التي تصدر عن جامعة الدول العربية. يظل هذا التناقض قائماً بين عناوين النوايا ومقرراتها، وبين تقصير الواقع وتناقضاته، وهذا ما يجعلنا نقول إن الرهان يبقى على تجارب البعض مما يخوض المغامرة.

ولعل هذا يفسر فشل كل الدعوات الرسمية العربية لانشاء محطة عربية دولية او محطات موجهة باتجاه الآخر، او الدخول على خط البث نحو مواقع عالمية لا نزال بعيدين عنها.

إعلام قلق :
- لدينا نقص في معرفة العدوّ ولا يغطى هذا النقص في سماع صوت الآخر عبرنا ، بل في محاولة كشف الآخر ليكون هذا الكشف جزءاً من المواجهة امام حركة النضال السياسي والمقاومات للجانب العربي.
تنقصنا احصاءات ورصد للآخر ... تنقصنا محاولات قراءة الآخر تماماً كما يفعل اعلام الآخر في خرائطنا.

لماذا لا يتحدث الإعلام العربي الآن عن حجم الهجرة اليهودية، مثلاً؟ لماذا تصب كل برامجنا السياسية والوثائقية اهتمامها على نبش واقعنا بمراراته دون ان تتأطر وتتطور إلى محاولة كشف الكثير من تناقضات الجانب الإسرائيلي:

التناقض في المجتمع الإسرائيلي بين يهود شرقيين وغربيين، بين التناقض الاجتماعي الواضح، أبراز نزعات التطرف، محاولات الاختراق ...

سأعطي مثالاً خلال المراحل الاخيرة للانتفاضة. 165 مؤسسة سياحية اقفلت ابوابها في إسرائيل، ازمات اقتصادية متعددة هجرة يهودية تقلصت، بل صارت معاكسة ...

لماذا لا نقترب من هذه الجوانب؟
لماذا وقعت برامجنا السياسية في كمين حوار النقائض مما زاد امسياتنا العربية احباطاً وتركنا الآخر؟

لماذا هذه القطيعة بين الإعلام العربي ومؤسسات وجمعيات الروابط التي تدعو للمقاطعة مثلاً في عالمنا العربي؟

لماذا التقصير في إثارة جرائم الحرب؟ نحن نغطي الخبر ... الخبر بعد قليل لا يصير خبراً ... ينطفىء وينطفىء معه اهتمامنا.

بعض اعلامنا قصير النفس ... لأنه ينقصنا البحث، جدية البحث. نحن إخباريون فقط حتى الآن.
تحرر الإعلام العربي من تبعية مصدر الخبر ... بل مصدر الصورة احياناً، وتحرر من بعض لغة الآخر الاخبارية، لكن ذلك يتم احياناً بصورة نسبية، وهناك جيل من الاخباريين العرب الجدد ما زال أسير نمطية الآخر تحت حجّة الواقعية. او الإعجاب بتجربة الآخر.

بعضنا، وبحجة الواقعية او البحث عن دور، يتعاطى بحيادية كأن يسعى لان يكون مرجعاً إعلامياً لدى غير العرب، وهذه عقدة نقص واضحة لأن الآخر لن يعتمد على وسائلنا قبل ان نمتلك عناصر العالمية، وهذا يحتاج إلى تحولات كبيرة.

لم يرقَ بعض أبناء جيل الاخباريين، وخاصة في محطات التلفزة العربية إلى لغتهم الخاصة، وان كنت لا أعني ان نستمر في لغة الستينات التي تعودناها.
لكن كان من المفترض ونحن نشهد التحولات التقنية بكل تجلياتها أن نواكب هذه التحولات لصالح إيجاد لغة اخبارية عربية جديدة.

إن التجربة واضحة هنا في التعاطي الاخباري اليومي مع تطورات القضية الفلسطينية.
إن صورة جديدة بات الإعلام العربي يبثها من الواقع الميداني، لكن هذه الصورة في مضمونها لم تحرر تماماً من صورة الآخر ... لم نصل بعد إلى الخصوصية ، وإلى لغة إخبارية مميزة، وان كنا نلحظ محاولات تتلمس حالة التغيير التي قد تتبلور خلال اعوام قليلة.

ثمة محطات تعاني إشكالية الهوية ... تعاني عدم القدرة على حسم الخيارات ... ربما لأنها نتاج لحالة نظامية عربية معينة.

ربما لانها نتاج لحالة إقليمية معينة.
ربما لأنه اريد لها أن تلعب دوراً معيناً لمراحل معينة.
نعاني قلة الاحتراف احياناً.

إن الفرق شاسع بين طبقة الإعلاميين العرب في الستينات، في الصحافة والاذاعة وحتى التلفزيون، وهم يتعاطون مع القضية الفلسطينية وطبقة الإعلاميين الجدد ... لجهة حجم الوعي السياسي ...

الآن هناك تدنٍّ في الاحتراف المهني والسياسي، هذا ما نشعر به جميعاً، تدنّ في الوعي.
هناك خلل بين مقومات الامكانيات التكنولوجية وبين مقومات الرؤى السياسية بهذه المحطات، في هذه العاصمة او تلك.

بعض اعلامنا يلعب دوراً تحريضياً ... في مراحل متقطعة، لكنه ليس دوراً يستند إلى رؤى متكاملة تتقاطع مع مفاهيم استراتيجية.

تهاوت الوكالات العربية أمام التلفزة.
تراجع دور الصحيفة، لم يعد قلم الرمز الصحفي محركاً. لم يعد لدينا كاتب كبير للقضية.

وقعنا في كمين بين تقليد الآخر ... والقدرة على مواكبة الآخر.
بين منطق الحيادية ... وتناسي الدور القومي.
لم نأخذ بعين الاعتبار أن الإنسان العربي لا يزال انسان هذه القضية ويريد الإعلام ان يكون مرتبطاً بها ارتباطاً وثيقاً.

ربما نحن نؤخذ على عجل نحو شيطان التقنية التي تذهلنا أحياناً ... وتتجاوز رؤانا السياسية ورؤانا الإعلامية التي كانت سائدة.
ألم يفاجئنا محمد الدرة على عجل، فقلب كل برامجنا، ونشراتنا، واحدث زلزالاً ... سارعنا إلى مواكبة اهتزازاته؟

ألم تبدُ كل الاحداث أنها دائماً تأتي على عجل ... فنجد انفسنا أننا بحاجة إلى المسارعة والمنافسة والتقاط الخطة والتقاط الامكانيات.

الإعلام العربي فلسطينياً، ليس اعلاماً تعبوياً بالكامل ...
هو بالمقتضى الايديولوجي ... يحمل عنوان القضية، لكنه ربما في حركية الواقع لا يمتلك رؤاه الكامل للعب الدور الكامل.

الإعلام العربي في بعض جوانبه، في تعاطيه مع مفهوم الصراع ضد الإعلام الإسرائيلي، لا يصل إلى حدود امتلاك مقومات البعد الأنثروبولوجي في الولوج إلى نسيج عناصر المواجهة، أي الغوص في الجوانب اللا اخبارية فقط ...

المتلقي العربي الآن من نتاج خارطة الراهن الإعلامي، تائه بين محاولات استحداثية تدّعيها محطات تضع عنواناً لحرية تريدها، وبين استلافية لا يزال منطق الصراع يجذرها في ذاكرة هذا المتلقّي.

لا يمكن ان ننشىء كياناً اعلامياً، مركزياً، متطوراً، واعياً، لـه كل مقومات التواصل والحركة والمخاطبة، ونحن نعاني من شرذمة كياننا السياسي.

تبدو مشكلة الفلسطيني معنا كعرب، وهو جزء منا، اننا ننظر إلى قضيته، أي قضيتنا، من خمسين او مئة او ألف عين، نتحدث بخمسين او مئة او ألف لغة ... عنه .. وعنا.

ننفعل على عجل، ثم نخبو ... نكاد نقفز من شاشاتنا لنقاتل معه ثم ننكفىء ... فيما السياسي فينا هو الذي يحجم الإعلامي، والمسافة الصعبة يجب ان نجتازها.

ولهذا يبدو الوصول إلى العالمية ... إلى مخاطبة الآخر، إلى استخدام الإعلام كمقوم استراتيجي في الصراع صعب ... وصعب جداً، وعلينا ان نخوض حرباً حقيقية مع انفسنا أولاً ... مع أدوات صراعنا، أي مع مواقع قرارنا السياسي لتوظيف كمٍ كبيرٍ من الامكانيات في انشاء مواقع اعلامية متقدمة ليكون الإعلام خياراً في المواجهة بمستوى الخيار المقاوم، والخيار المواجه فعلاً وليس مجرد إعلام للنظام السياسي، وان كان يدّعي الآن تمايزاً.

________________________________

(1) بل هي احياناً المقدمة الطبيعية لصناعة القرارات الكبرى.

(2) ونتاج تجاري استهلاكي ضيق وقليل الانتماء والالتزام، وهذا الاعلام أيضاً يعكس الواقع السياسي المجزأ...

(3) وعلى التأثير على العدو عبر استخدام الاعلام كسلاح.

(4) اعطى مثالاً، ويعرف معالي الوزير ذلك، إن مجلس وزراء الاعلام العرب يلهث من اجل 15 مليون دولار من أربع سنوات حتى الآن لتأمينها من اجل قيام خطة إعلامية عربية، وهذا المبلغ لم يتأمن حتى هذه اللحظة.

(5) لقد عرضت بعض الوكالات العالمية للبيع قبل 5 سنوات ولم يبادر المال العربي إلى شراء هذه المحطات.

________________________________

تقديم معالي الأستاذ ميشال سماحة للدكتور جورج كلاس

د. جورج كلاس مدير الفرع الثاني في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، تخصص في القضايا الانتمائية، وتقني في حسن استعمال الوسائل وتدريب النشء الجديد على المعرفة في استعمال وسائل الإعلام. وله دراسات حول رؤيانا للآخر، ورأي الآخر فينا.