من الصدام إلى الحوار - المطران غريغوار حداد

الرئيسية إصدارات كلمة سواء مؤتمر "كلمة سواء" السادس: حوار الحضارات ... اجتمعنا من اجل الإنسان

اليوم الأول - الجلسة الأول

من الصدام إلى الحوار
المطران غريغوار حداد  (*)

مقدمة لغوية
1- الصدام في القاموس

"الصدام (أصلاً ومادّياً) هو ارتطام الشيء بآخر، وهو (معنويّاً ومجازيّاً) خلاف، أو نـزاع، أو مشادّة، أو مشاحنة، أو قتال عنيف" (المنجد).

وهو يمكن أن ينشأ:
أ- مادّيًا: بين قطارين، أو سيّارتين، أو جسمين متحرِّكَين، أكانا حيّين (إنسانين أو حيوانَين)، أو كانا جامدين (كوكبين أو كرتين).

ب - معنويًّا: بين عدّة جهات:
* بين أفراد: ولدَين، أخوَين، زوجَين، صديقَين، صديقتَين، شريكَين في عمل، في مشروع، رفيقَين في مدرسة، في جمعيّة…

* بين جماعات: أسرتَين، قبيلَتين، عشيرَتين، قريتَين، منطقتَين، بلدَين، جبهتَين، جمعيّتَين، حزبَين، طائفتَين، مذهبَين…

* بين فكرَين: رأيَين، عِلمَين، فلسفتَين، أيدولوجيَّتَين، ثقافتَين، حضارتَين، تيّارَين، دينَين، إيمانَين.

* استنتاجات
من تحديد "الصدام" في القاموس، ومن الأمثلة عن الصدامات المختلفة، يمكن الاستنتاج:
- أنّ "الصدام" ظاهرة واسعة الانتشار.

- أنّها ترافق الإنسان في شتّى أطواره، من الطفولة إلى الشيخوخة، في المنـزل والعمل والمجتمع.

- وأنّها ترافقه خاصّة على الصعيد الفكري، أكان دينيّاً، أو مدنيّاً.

- وأنّ هذه الظاهرة تبدو ملازمة لطبيعة الإنسان الفرد، والجماعة، والمجتمع.

- أي أنّها سُنّة من سُنن الطبيعة الماديّة والبشريّة. تنبّه لها الفلاسفة، بل الشعراء أنفسهم، الذين يهيمون عادة في الرومانسيّات والجماليّات. وقد عَلِق في الذهن من أشعارهم:

"والظّلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ، فلعلةٍ لا يظلم"
"ليت هندًا أنجزتنا ما تعدْ…
واستبــدّت مــرّة ً واحدةً إنّما العاجز من لا يستبدّْ"
- لهذا فالموقف الموضوعي العلمي هو عدم التعجّب من الصدامات المتنوّعة، في عالم الحيوان، الذي تمرُّ عراكاته على الشاشة الصغيرة في عدّة محطّات؛ وفي عالم الإنسان. وهنا يقول الشاعر:
"تعجبــين مـن سَقَمـي صحّتي هي العجبُ"

- والأمثلة في الآداب القديمة كثيرة بهذا الشأن، منها ما أذكره من الأدب اللاتيني: Homo homini lupus أي: الإنسان ذئب للإنسان.

- وأخيرًا يمكن الاستنتاج أنّ الذين اختاروا كلمة "صدام" لموضوع هذه الجلسة من جلسات مؤتمر "كلمة سواء السادس" هذا "كلمة سَواء"، وُفِّقوا في اختيارها بدلاً من كلمة "صراع" أو حتّى "تصادم" لأنّ فيهما إشارة لا إلى الطبيعة، بل إلى تدخّل الإنسان بإرادته الواعية أو برغبته غير الواعية.

2- الحوار في القاموس والقرآن
• في المنجد: "الحوار هو تبادل الحديث والمجادلة والكلام".
- في القرآن الكريم:
﴿فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفرًا﴾ [الكهف، 34].
﴿قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرتَ بالذي خلقك من تراب﴾ [الكهف، 37].
﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إنّ الله سميع بصير﴾ [المجادلة، 1].

• تمييز مقترح:
فإذا أردنا أن نميّز لغويّاً بين الصيغتَين: "حاور يحاور حواراً"، و"تحاورا يتحاوران تحاوراً"، أمكن القول، مع بعض الإيجاز:
- إنّ "الحوار" عمليّة ذات اتّجاه واحد، أي الكلام مع آخر بدون انتظار جواب منه. لذلك يمكن الوصول فيه إلى ما يُسمّى "حوار طرشان".
- بينما "التحاور" هو عمليّة مشتركة بين اثنين أو أكثر، كلٌّ يُصغي –أو يحاول أن يُصغي- لما يقوله الآخر، ويجيبه على ما يقوله، (أو أقلّه يجيب على ما فهم منه، إذ أنّ الكلام يمكن أن يصبح سبب سوء فهم وسوء تفاهم)، وينتظر جوابًا على جوابه، حتّى الوصول إلى نتيجة مشتركة:
• إمّا الاتّفاق على جميع المقولات،
• أو الاتّفاق على بعض منها، والاتّفاق على الاختلاف في مقولات أخرى،
• أو القبول المشترك بعدم الاتّفاق على أيّ مقولة، وبالوقت ذاته القبول بالاختلاف بينها من دون عدائيّة، أو اتّهام بالجهل، أو بالكفر. وبما أنّ كلمة "حوار" هي التي انطلق استعمالها، من الصعب استبدالها بكلمة "التحاور".

• مجالات التحاور
والتحاور يمكن أن يجري في أي موضوع كان:
- في المسائل الفكريّة، النظريّة، أو العمليّة التّطبيقيّة،
- في المسائل النفسيّة، الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، السياسيّة،
- في المسائل الحياتيّة والمعيشيّة (كالتي كانت تتحاور مع النبيّ في زوجها)،
- في المسائل الدينيّة والإيمانيّة،
- في الثّقافات والحضارات.

3- الحضارة
الحضارة كلمة غامضة، أي لا مضمون واضحاً لها. لذلك حُدّدت بطرق متنوّعة. فلو كانت واضحة لكان لها تحديد واحد.

لن أدخل في سرد هذه التحديدات، وقد يكون البعض منكم قد مرّ بها للمرّة العشرين، بل أكتفي ببعض الملاحظات العمليّة.

كثيرون يقولون اليوم:
- كل بلاد لها حضارتها، حتّى المعتبرة بدائيّة. وإن صنّفها الكثيرون غير "حضاريّة" أو غير "متحضّرة".
- هناك حضارة كانت تجتاح العالم… أو تحاول اجتياح العالم، تُسمّى "الحضارة الغربيّة".
- هناك الآن "العولمة الثّقافيّة" التي تهدّد باقي الثّقافات، وتطمح في أن تصبح الحضارة الشاملة للعالم.
- وإزاءها تتصاعد اليوم هيآت ومنتديات لمحاربة العولمة الثّقافيّة والاقتصاديّة، بدأت في "سياتل" (Seattle الولايات المتّحدة)، ثمّ في (فرنسا) وبعدها في "دافوس" (Davos سويسرا)، و"جنوا" (Genova إيطاليا).
وتتهيّأ الآن في لبنان ضدّ مؤتمر "التجارة العالميّة" (OCI)، الذي سيُعقد في "قطر" بعد أيام، واسم هذه المقاومة "المنتدى العالمي حول منظّمة التجارة العالميّة".
- وأهداف هذه المحاربة منها اقتصاديّة لمنع الإمبرياليّة الاقتصاديّة من ابتلاع المؤسّسات الصغرى والمتوسّطة بل والكبرى، لحساب "المؤسّسات العابرة القارّات" (Transnationales).
- ومنها ثقافيّة تمنع تلاشي الثّقافات والحضارات الكبرى والصّغرى لحساب ثقافة واحدة هي الإنكليزيّة وحضارة واحدة هي الأمريكيّة.

• الحضارة والتّراث
- هناك تمييز آخر لا بدّ منه هو بين الحضارة والتّراث. يمكن القول إنّ "التّراث" هو الباقي من حضارة كانت حيّة ناشطة في ماضٍ بعيد أو حديث.
- فالحضارتان اليونانيّة والرومانيّة اندثرتا، ولكنّهما أبقتا في العالم أثراً كبيراً، من خلال تراث يوناني - روماني، لا يزال هامًّا جدًّا، من أهمّ المراجع التي يرجع إليها الفكر الإنسانيّ.
- بينما هناك حضارات اختفت من الوجود لأنّها لم تترك تراثاً في الحجر أو الرسم، أو الكتابة.

* فماذا عن الحضارة العربيّة؟
- هي تراث يحاول أن يُصبح حضارة من جديد.
- تراث غنيّ جدًّا، قد يكون أغنى تراث في العالم: تراث كان حضارة على صعيد ديني وأدبي وشعري، تكوّن في القرون الهجريّة الثّلاثة الأولى.

- تراث يحاول أن يُصبح من جديد حضارة في وجه، بل في مواجهة الحضارة الغربيّة أو العولمة الزّاحفة على العالم، كأنّها "محدلة" تُسوّي جميع ثقافات وحضارات العالم.

- تراث فكريّ فنّي عالمي - لكي لا أقول عَلماني فأُتّهم بالدّعاية "لأبرشيّتي" التي عدتُ أنشط فيها من خلال "تيّار المجتمع المدني" (لا دعاية، بل سيرة وانفتحت!)، تراث أخذ يهتزّ ويترنّح منذ 11 أيلول في نيويورك وواشنطن.

- تراث عربي، تارة يتماهى مع التّراث الإسلامي، وطوراً يتمايز عنه من خلال تنظيمات سياسيّة نشأت في القرن العشرين.

- تراث عربيّ يُحاول بعض العلماء المسيحيّين أن يصفه "مسيحيّاً عربيّاً" فينفض عنه غبار السنين والمكتبات، مساهمة في فكّ الارتباط التاريخيّ والدينيّ بين الإسلام والعروبة، من خلال نشر كتب فلسفيّة وعلميّة ولاهوتيّة من القرون الهجريّة الأولى، تُعدّ بالمئات، صدر منها نحو عشرين كتاباً، بينما مئات بل ألوف المخطوطات لا تزال تنتظر الانبعاث من النسيان.

- يحاول "العالم العربي" أن يُحيي الحضارة العربيّة… ولكنّه لم ينجح حتّى الآن، وقد يكون غير مطلوب وغير ممكن إحياء هذا التّراث، بل المطلوب إحداث حضارة عربيّة حديثة، مرتبطة بالتّراث، ولكن غير مجمّدة فيه.

- هناك "دول عربية مستقّلة" متباينة ثقافيّاً وحضاريّاً رافضة الانقسام وقابلة بالأمر الواقع. من الضروري أن يتمّ التّفاعل بينها في الهيئآت العالمية التي أُنشئت وستُنشأ، لتصل إلى إحياء الحضارة بدلاً من التّغنّي بالتّراث.

* الحضارات والأديان
والسؤال المطروح دائمًا في هذا المجال هو: ما هي العلاقة بين الحضارات والأديان؟

الجواب يتطلّب أكثر من خمس دقائق من محاضرة ثلث ساعة! أكتفي ببعض ما يتردّد كأنّه من البديهيّات أو المسلّمات، في عناوين مقتضبة:
هناك علاقة وثيقة بين كل دين والحضارة التي تواكبه، وطرحان أساسيّان:
- طرح أوّل: "تعدّد الأديان من تعدّد الثّقافات" (من محاضرة بولس الخوري في تمّوز2001) يقول فيها: "الله يبقى هو هو، لا يتغيّر في جوهره، في حين أنّ الأنظومات الدينيّة مصيرها الثّقافات. فمتى طرأ تبدل في الثّقافة، ومتى تبيّن أنّ هناك حاجة لتصويب الطريق الدينيّة، كي يتمكّن المؤمنون من السير عليها بأمان نحو الله، صار من الواجب مراجعة الأنظومة الدينيّة وتصويبها، من دون المساس بجوهر الدين".
- طرح ثان: بينما الطرح الآخر هو نقيض الأوّل، ويمكن اختصاره بالقول التالي: الحضارات هي وليدة الديانات.
هنا نلتقي بما يقوله مسؤولو الديانات عن الموضوع، وبما يقوله التاريخ، لا سيّما في ديانتي أغلبيّة اللبنانيّين.

*الحضارة المسيحية
لمسألة الحضارة في المسيحية بعض التعقيدات:
هناك الآيتان المعروفتان اللتان يستشهد بهما دائماً:
* "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (متى 17:22).
* "مملكتي ليست من هذا العالم". (يوحنا 36:18).

وقد فَهِمَ اللاهوتيون، ولا سيما بعض المتصوفين، أن المسيحية لا تهتم بأمور هذا العالم، وانتشر تيار بل تيارات متنوعة في التاريخ المسيحي، خاصةً بين الرهبان، تدعو إلى اعتزال العالم ويردد الكثيرون من مسيحيين وغير مسيحيين أن المسيحية ليست ديناً ودنيا، بل ديناً وروحانية تهتم بالحياة الأبوية فقط.

ولكن المسيح لم يطلب من تلاميذه الاعتزال عن العالم، بل أن يحترزوا من الغرق في شؤون العالم وفي الشر المنتشر فيه.

فقد صلّى عشية موته - إذ ان المسيحية تؤمن أن المسيح مات وقام ورفعه الله إليه- صلى قائلاً:
* "لست أنا بعد في العالم. أما هم (التلاميذ) فإنهم في العالم...
لا أطلب أن تخرجهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشر.
إنهم ليسوا من هذا العالم، كما إني أنا لست من العالم.
قد سهم في الحق. إن كلمتك هي الحق.
كما أرسلتني إلى العالم، أنا أيضًا أرسلتهم إلى العالم..." (يوحنا 11:17و15و18)
والمطلوب من تلاميذه في هذا العالم الذي أرسلهم إليه هو،
- "لا أن يعلنوا بشارته للخليقة كلها فقط" ( مرقس 15:16)
- "بل أن يكونوا لهم شهودًا في أورشليم, وفي جميع اليهودية والسامرة، وإلى أقاصي الأرض" (أعمال الرسل 8:1)

بل المطلوب ما سيدانون بشأنه في يوم الدين، أعمال الرحمة التي تسمى الآن الخدمات الإجتماعية:
* "إطعام الجائع، وإرواء العطشان.
* إيواء الغريب، وكساء العريان.
* عيادة المريض, وزيارة السجين" (متى 34:25و36)

بل المطلوب أيضًا منهم متابعة الرسالة التي قال أنه بدأ يتممها، عندما أعلن بيانه بأول خطبة في مجمع بلدته "الناصرة":
*" فدفع إليه سفر أشعيا النبي. فلما نشر السفر وقع على الموضع المكتوب فيه:
"روح الرب علي لأنه مَسَحني لأُبشر المساكين،
وأرسلني لأنادي للمأسورين بالانعتاق، وللعميان بالبصر،
وأطلق المرهقين أحراراً،
وأعلن سنة نعمة للرب" (لوقا 2:4و4)

المسيحية هي – ككل ديانة- كما يقال: "دين ودنيا"، والأفضل القول:" إيمان بالله والتزام بالإنسان". ولكنها ليست "دنيا ودولة" لذلك ليست لها "حضارة" منبثقة من توجيهات المسيح.
لقد نشأت عبر التاريخ حضارات كثيرة، سُميت "مسيحية"، ففي المسيحية كل شيء نسبيّ ما عدا الله، الآب، والإبن والروح، هو الإله الواحد، المطلق الواحد.

- فعندما تدعي "حضارة" أو "دولة" أو مؤسسة، بل كنيسة، أنها تمثل المسيح وحدها, تقع في بدعة, في "هرطقة", إن لم تكن عقيدة فأقله "تنظيمية"، لأنها جميعها نسبية.

- وقد نشأت خلافات وصراعات عبر التاريخ، وانقسمت الكنيسة الواحدة إلى كنائس متصارعة بل متحاربة دمويّاً، باسم المسيح وبعض العقائد المتناقضة، بينما الاختلاف كان على صعيد الثقافات والحضارات اليونانية والرومانية والسريانية. لذلك في أيامنا، وقد اندثرت هذه الحضارات، وبقي التراث الثقافي والطقسي من كل منها، تبين أن الخلافات لم تكن على صعيد العقيدة، وأخذت الكنائس تسعى في "الحركة المسكونية" للإتحاد الفدرالي، إن لم يكن للوحدة الكاملة.

- كما إن المسيحية في أيامنا أخذت تطلق على بعض القيم والتيارات التي تؤمن بها، وتشترك في إيمانها هذا مع باقي الديانات، تطلق عليها إسم حضارات، فنسمع ونقرأ مثلاً عن:
• حضارة المحبة، بدلاً من البغض والتنافس.
• حضارة السلام، بدلاً من الحرب والعدائية والعنف.
• حضارة الحياة، بدلاً من حضارة الموت (لا سيما في ما يخص الاجهاض "والموت الرحيم"...)

* الحضارة الإسلامية
في الإسلام الذي يشدد على كونه "ديناً ودولةً، لا ديناً ودنيا فقط، نشأت حضارات إسلامية، لا حضارة واحدة. ولا تزال تنشأ الآن.

فالحضارة التي أحدثها الرسول العربي، وتابع مسيرتها الخلفاء الراشدون، غير التي أقامها أهل البيت، والأمويون، وغير التي انبثقت مع العباسيين، ثم الفاطميين والمماليك والعثمانيين وغيرهم...

وحضارة الأندلس الشرقية-الغربية تميزت عن باقي الحضارات الإسلامية. ولا يزال قلوب الكثيرين تحن إلى تلك الحضارة الغابرة كأنها أجمل نموذج للحضارات الإسلامية.

ولكن جميع تلك الحضارات أصبحت ماضية، أصبحت "تراثات"، تراثات غنية جدًا، متباينة بعض الأحيان, ومتكاملة أحيانًا أخرى.

وحاليًا هناك حضارات إسلامية متعددة، يكاد يصح القول إنها بعض الدول التي تعلن أنها إسلامية، وللإقتناع من هذا التعدد يكفي أن نذكر بعض النماذج، فالتباين واضح:
- بين الحضارة الشرقية والغربية.
- وبين الحضارة العربية والحضارات الإسلامية غير العربية.
- وبين الحضارة المسماة "سِنّية" والحضارة المسماة "شيعية".
- وبين "الشيعية الإثني عشرية" "والإسماعلية" و"العلوية"...
- وبين الحضارات التي لا تزال تريد التماهي مع حضارة فجر الإسلام وتلك التي تريد أن تواكب العصر.
- وبين الحضارات التي تعلن أن دستور الدولة هو الشريعة الإسلامية ومصدرها الله بدون تسرّب أي قانون بشري والحضارات التي نشأت ولا تزال تنشأ من تلاقح الشريعة الإلهية مع القوانين الوضعية.
- وبين الحضارة المسماة "أصولية"، المتشددة، والحضارات المنفتحة، والمتسامحة، القابلة بالتعددية الدينية.

ب- صدام الإسلام مع الديانات المنتشرة
وجاء النبيّ العربيّ ورسالته والقرآن والإسلام، مع آيات تدعو المؤمنين الجدد إلى الالتـزام بالبشارة والإنذار للناس كافّة:
﴿يا أيها النبيّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً﴾ ]الاحزاب، 45-46]

﴿وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً﴾ [الأحزاب، 47].
﴿إنّ الدين عند الله الإسلام﴾ [آل عمران، 19].
﴿وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ [الانفال، 39].
"﴿لا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون﴾ [التوبة،29].
﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينًا، فلن يُقبل منه﴾ [آل عمران، 85].
﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾ [المائدة، 3].

انطلاقًا من الاقتناع بالدين الجديد، ومن متطلّبات دعوة الناس ليعتنقوه، لأنّه "دين الحقّ"، ولأنّ الله لا يقبل أيّ دين آخر، وأنّ على هذا الدين أن ينتصر على باقي الأديان، و"يكون الدين كله لله"، أخذ الأنصار، والمهاجرون، والتّابعون، وجميع المؤمنين يبشّرون، ويحاولون أن يهدوا جميع من أمكنهم إلى هذا "الصراط المستقيم".

لذلك كان لا بدّ من صدام الإسلام مع معتنقي الديانات الأخرى، لا سيّما المسيحيّة واليهوديّة.

* شهادة التاريخ
• صدامية الإسلام
فإذا استعرضنا التاريخ، وجدنا أنّ إمكانات الانتقال من الحوار إلى الصدام، بل البدء بالصدام بدون أيّ حوار كان لها النصيب الأوفر من مراحل التاريخ. يكفي أن نذكر بعض العناوين، بدون ضرورة الشرح لأنّ الذاكرة التاريخيّة ملبّدة بهذه الذكريات الأليمة:

- فهناك "الفتوحات" الإسلاميّة، التي يعتبرها المسلمون امتداداً طبيعيّاً لدعوة الرسول العربيّ الشاملة: "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين" (الأنبياء، 107)، لا للمسلمين فقط.

- بينما يعتبرها المسيحيّون اجتياحات للمجتمعات المسيحيّة، أكان ذلك:
- بالسيف، بالغزوات، بدءاً بالتي جهّزها الرسول: غزوة "مؤته"، وغزوة "تبوك" ضدّ البيـزنطيّين، أو بإخضاع رؤساء قبائل مسيحيّة في "أيلا"، و"جربا"، و"أذرع"، و"جراش"، بدون حرب.

- أو من خلال معاهدات، كما حدث مع نصارى "نجران".
- وهناك الأسلمة التوسّعيّة من الخليج إلى المحيط، كما يقال اليوم.
وعندما نتنبّه إلى تأثير "الإنترنت" (في اختصار ثورة المعلوماتيّة) على الذين وصلتهم "التّراثات" القديمة، ويحاولون أن يتماهوا مع "حضارات"، نكتشف كم في مقولات الصدام والصراع والحوار من ضبابيّة.

• صدامية المسيحية
أما المسيحية فكانت صدامية تجاه الإسلام في عدة حقبات وعدة بلدان, لا يزال الإسلام يختزنها في الذاكرة الجماعية، لا سيما:
- تحرير الأندلس.
- الصليبية، في القرون الوسطى.
- الاستعمار في القرون الأخيرة.
- الاستشراق الناقد والعدائي.

• استنتاج أولي:
لذلك، إذا رجعنا إلى عنوان حديثنا، يمكن القول:
- إنّ هناك تمايزًا الدين المسيحي والدين الإسلامي القائمين.
- إنّ هناك تمايزًا الحضارة بل الحضارات المسيحيّة والإسلاميّة الآخذة بالنموّ والتّفاعل.
- التّراث المسيحي والتّراث الإسلامي الحاليَّين.
- وإنّ هناك إمكانيّة حوار بينها.
- وإنّ هناك إمكانيّة صدام بين هذه على كل مستوى.
- وإنّ هناك إمكانيّة انتقال من الحوار إلى الصدام.
- وإمكانيّة الانتقال من الصدام إلى الحوار.

أ- من الصدام إلى الحوار
• عود على بدء
سبق القول في المقدّمة: إنّ الصدام ظاهرة ترافق الإنسان في شتّى أطواره واهتمامه، لا سيّما الفكريّة، أكانت دينيّة أم مدنيّة.
- وإنّ هذه الظاهرة تبدو ملازمة لطبيعة الإنسان، الفرد والجماعة والمجتمع، المدني والديني.
- وإنّ الموقف الموضوعي العلمي هو عدم التعجّب من الصدامات المتنوّعة.
- وإنّ التّحاور هو عمليّة مشتركة بين اثنين أو أكثر للإصغاء المتبادل، وتجاوز سوء التفاهم، والوصول بها:
• إمّا إلى الاتّفاق على جميع المقولات، على "الجوامع" أو الثّوابت،
• أو الاتّفاق على بعض منها، والاتّفاق على الاختلاف في مقولات أخرى.
• أو القبول المشترك بعدم الاتّفاق من دون عدائيّة أو اتّهام بالجهل، أو بالكفر.
وسنطبّق ذلك على العلاقة بين الإسلام والمسيحيّة على صعيد الديانيتين والحضارات المنبثقة عنهما.

• قبل الإسلام كانت الديانات المسيحيّة واليهوديّة والمجوسيّة والوثنيّة منتشرة
كانت بعض الجماعات "النصرانيّة" تقطن الجزيرة العربيّة وتخومها، منها تابعة للروم ومنها للفرس.
- وكانت "المسيحيّة المشرقيّة" قد عمّت بلاد الشام وفينيقيا وبلاد ما بين النهرين وما كان يُسمّى بآسيا وكبادوكيا، أي تركيّا الحاليّة، وقبرص واليونان وبلاد فارس (إيران الحاليّة).
- وكانت "المسيحيّة الغربيّة" قد امتدّت على أغلبيّة أراضي أوروبّا وأفريقيا الشماليّة.
- وكانت جزر وثنيّة لا تزال حيّة وفاعلة في هذه المناطق، بل مؤثّرة على العقيدة المسيحيّة.
- وكانت الكنائس المشرقيّة والغربيّة تلتئم مرّة أو أكثر كل سنة، في "سينودس" (أو مجمع) لتدرس بعض المقولات اللاهوتيّة، لإقرار ما هو وفق الصراط المستقيم (الأرثوذكسيّة) وما هو خارج عنه، أي ما يُعتبر بدعة (هرطقة)، ولأجل:
- الاتّفاق على التّعبير السليم الأرثوذكسي،
- والحكم على من لا يقبل بهذا التّعبير، بل يتبنّى غيره،
• إمّا بالحرم، أي بالإخراج من "الشركة الكنسيّة"، أو بنفي أصحابه خارج مسؤوليّتهم الكنسيّة.
وكانت لا تزال مع الجماعات الوثنيّة جماعات يهوديّة، منها في الجزيرة العربيّة، ومنها في بلدان الانتشار اليهودي المتعدّدة. فقد ذكر بعضها سفر "أعمال الرسل" في فصله الثّاني، يوم العنصرة أي حلول الروح القدس بصوت ريح شديدة على التلاميذ وأخذهم بالتكلّم بلغات مختلفة. يقول هذا السفر:
"وكان يهود رجال أتقياء من كل أمّة تحت السماء ساكنين في أورشليم. فلمّا صار هذا الصوت اجتمع الجمهور وتحيّروا لأنّ كل واحد كان يسمعهم يتكلّمون بلغته. فبهت الجميع وتعجّبوا قائلين بعضهم لبعض أترى ليس جميع هؤلاء المتكلّمين جليليّين. فكيف نسمع نحن كل واحد منّا لغته التي ولد فيها. فرتيّون وماديّون وعيلاميّون والساكنون ما بين النهرين واليهوديّة وكبدوكية وبنتس وآسيا وفريجية وبمفيلية ومصر ونواحي ليبية التي نحو القيروان والرومانيون المستوطنون يهود ودخلاء، كريتيون وعرب نسمعهم يتكلّمون بألسنتنا بعظائم الله" (أعمال الرسل 2: 5-11).

• هل يمكن الحوار بين المسيحية والإسلام؟
المسيحية والإسلام لا يزالان في حروب متنوعة: دينية، سياسية، واقتصادية.
المسيحية والإسلام كل منهما يقدم دينه على أنه لجميع الشعوب والأزمان.

- وبما أن تعابيرهما، المعتبرة منزلة، أو موحاة، أو معصومة عن الخطأ، قد جاءت في زمان محدد لشعب محدد، لكي يكون مضمونها مفهوماً،

- وبما أن الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية قد تغيرت،
- وبما أن التعابير التي جاءت بها كتبهما قد أصبحت بحاجة إلى تفسير لكي يفهمها أهل عصرنا، بسبب تطورها عبر الأزمان المتعاقبة،

- وبما أن علماء ومجتهدين ولاهوتيين وكتاباً لا حصر لهم قاموا بهذه التفاسير، واختلفوا في كثير من الأحيان في التأكيد على المعنى الصحيح لها، حتى أن هناك قولاً مأثوراً يتردد في الإسلام: "إن اختلاف الأمة رحمة"،

لكل ذلك كان لا بد من تجاوز هذه الحروب الدينية والسياسية والاقتصادية الماضية, بالرغم من الغنى الذي قد يكون كبيراً في مجلداتها التي لا حصر لها.

ومن جهة أخرى يتطور العالم خارجاً عن المسيحية والإسلام واليهودية وجميع الأديان الأخرى، كأنها أصبحت كميات مهملة، على هامش التاريخ،, ولا حاجة لزماننا أن يرجع إلى الغنى الذي قد يكون كامناً فيها, ولم يبق لعالم اليوم المعلمن واللاإدري، إن لم يكن الملحد تماماً، واللامبالي بالدين والإيمان، أي رغبة في الاستماع إلى ما قد تقوله الأديان.

فإذا كان بعض المؤمنين بالله ومطلقيته وضروريته وحاجة الإنسان والإنسانية إليه، لا يزالون مقتنعين بأن العالم ذاهب إلى الهلاك والعدم والانتحار المعنوي إن لم يكن الفعلي، من المحتم عليهم أن يجدوا معاً السبيل للوصول إلى من لا يزال لهم آذان للسماع لغير اهتماماتهم الزمنية.

• الإيمان المشترك
نحن المسيحيون والمسلمون نؤمن منذ نشأة ديانتنا:
- أن الله واحد أحد، لا إله إلا هو.
- أن ليس له شركاء يقاسمونه الألوهية.
- أن ليس أرباب من دون الله يحق لهم السجود والعبادة.
- أن الله لم يكن قط له صاحبة، ولم يتخذ منها ولداً.
- أن الله لم يلد ولم يولد بالمعنى البشري المعطى لهذين التعبيرين.
- أنه لم يكن له كفواً أحد.
- أنه ليس كمثله شيء، ليس كمثله كائن، أكان في الجماد أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الأرواح.

- إنه المطلق، الغني في ذاته غنىً مطلقاً، لا ينقصه أي بُعد من أبعاد الكيان.

- أن غناه الذاتي لا يمكن أن يدركه أحد، إلاّ إذا شاء أن يوحي إلى إنسان رسول أو نبي جانباً من هذا الغنى.
- وأن الوحي بهذا الجانب من الغنى هو دائماً من أجل خير الإنسان والإنسانية، وليس عبثاً ولهواً ولعباً.

- وأن التعبير عن أي جانب من كيان الله وغناه لا يستطيع أن يكون وافياً، ولا يستطيع أن يوصل عقل الإنسان أو إيمانه إلى الله وكنهه الحقيقي، إذ لا يقدر أن يكوّن خبرة داخلية كخبرة الله لذاته.
لذلك جميع الرسل والأنبياء الذين كلمهم الله أو أوحى إليهم أو أنزل عليهم كلماته ليس لديهم التعبير المطلق عن الله، بل التعابير النسبية.

ولذلك جميع مناقشاتنا وصراعاتنا في كنه الله وجوهره وغناه هي دائماً دون الحقيقة المطلقة.

ولذلك أيضاً يجب الكفّ عن كل حوار هدفه الوصول إلى تعبير واحد فريد، مطلق، معصوم عن الغلط، يكفر كل تعبير آخر.

هل يعني ذلك أن التعابير اللاهوتية عن كنه الله, بالرغم من نسبيتها، هي بلا فائدة،يجب طرحها جانباً؟ كلا، بلا شك.

فالله ليس في علاقة عبثية مع الإنسان. وكل كلمة عهد بها إلى رسول لإبلاغها هي موضوع إيمان وتأمل وتعمق، تحثّ كل مؤمن بها ليستثمرها وفق ما يريد الله له من أجل نموه الروحي.
فالمطلوب من هذا المؤمن لا أن يحارب بهذه الكلمة غير المؤمنين بل أن يتحاور بشأنها مع المؤمنين بها.

والمطلوب ثانياً أن يعلنوها، أن يشهدوا بما شاهدوه في تأملهم وحوارهم الداخلي, شهادةً سلامية، لا هجومية ولا دفاعية.

فالمسيحيون مسؤولون عن كلمات الإنجيل وباقي الكتب المقدسة التي يؤمنون بها، يتعمقون بها ويعيشون بموجبها، والمسلمون مسؤولون عن كلمات القرآن، يتعمقون بها ويعيشون بموجبها.

والمطلوب من المسيحيين والمسلمين أن يُنهوا في ما بينهم جميع الحروب الدموية والكلامية، وأن يكتفوا بالحياة والشهادة لما اقتنعوا به، وأخذوا يعيشون بموجبه.

• التناقضات الكبرى على صعيد العقائد
بين المسيحية والإسلام هناك بعض العقائد والمبادئ الأخلاقية المشتركة، ولكن بينهما تناقضات كبرى يبدو من المستحيل تجاوزها. هذا بعضٌ منها:

• في المسيحية
الله واحد لا اثنان ولا ثلاثة. إنما غناه الجوهري بجعل التعبير عنه بثلاثة لا انقسام بينها ولا اندماج، هم الآب والإبن والروح القدس.
• في الإسلام:
الله واحد، لا إله إلا هو، لا تبرير للغوص في جوهره إذ ليس كمثله شيء، ومن المستحيل القول عن ثلاثة في إله واحد.

• في المسيحية:
يسوع، أو عيسى، ابن مريم العذراء هو ابن الآب، إله من إله، اتحدت فيه الطبيعة الإلهية والطبيعية البشرية في شخص واحد أحد لا انقسام فيه ولا اندماج. عاش وتألم ومات وقام من الموت وصعد إلى الآب في وحدة لا انفصام فيها أبدياً، يسجد له كما يسجد لله.

• في الإسلام:
القول عن عيسى بن مريم إنه إله مساوٍ لله الواحد الأحد هو شرك لا يمكن شرحه ولا تبريره. هو رسول، نبي كباقي الرسل والأنبياء. لم يمت، ولم يقتله اليهود، ولكن الله "توفاه" بلا موت ورفعه إليه. يكرَّم كالأنبياء ولا يجوز السجود له.

لذلك من الضروري عدم الغوص في تقريب التعابير العقيدية للوصول إلى تعبير مشترك.
ولكن من الضروري أيضاً انفتاح العقل والقلب والإيمان لأجل قبول تعابير الآخر كما هي، لا كما نفسرها من وجهة نظرنا.

* مجالات تحاور ممكنة وضرورية
إذا كان التحاور العقيدي مستحيلاً وغير مرغوب فيه:
- لأنه مستحيل،
- ولأنه قد يسبب خلافات وصراعات وأزمات وحروباً دموية، كما حدث في التاريخ، إلاّّ أن هناك مجالات أخرى ممكنة، ولأنها ممكنة أصبحت ضرورية لجميع المؤمنين بالله، أو بالإنسان، أو بالله والإنسان معاً.
من هذه المجالات: التحاور الروحي، التحاور الأخلاقي، التحاور الاجتماعي، التحاور الوطني، التحاور الاقتصادي...
مع العلم أن منطلقات التحاور قد تكون مختلفة بين المؤمنين المسيحيين والمسلمين، وغير المؤمنين، اللاادريين والملحدين. فهناك قيم ومبادئ وأهداف مشتركة كثيرة يمكن أن يلتقي عليها الجميع.

* الالتباسات القاتلة
أخذ التحاور والحوار ينتشر في العالم:
- بين المسيحيين، الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت في ما يسمّى "الحركة المسكونية".
- بين المسلمين من السنة والشيعة وباقي المذاهب، من الذين تخطوا الخلافات القومية.
- وبين المسيحيين والمسلمين، في ما أخذوا يسمونه "الحوار الإسلامي المسيحي".
ولكن لا يزال هناك تيارات متشنجة في جميع الديانات.
ولا تزال المعارك الدموية والكلامية على أشدها في الكثير من البلدان, يكفي أن نتذكر: إرلندا الشمالية، والجزائر، وأفغانستان، والشيشان، وكوسوفو...
ولا تزال خاصة التباسات كثيرة تجعل المعارك غير واضحة المعالم, تختلط فيها الأسباب والأبعاد اللاهوتية، والقيمية، والسياسية والاقتصادية.

• بوش
عندما يتكلم "بوش الابن" عن "الصليبية" يخطئ على عدة مستويات:
- تاريخياً: الصليبية لم تكن تمثل "الحضارة المسيحية"، بل انحرافاً، حتى إذا كان الباباوات قد باركوها.

- ليس من أراضٍ مقدسة في فكر المسيح وهدفه، لكي يتجند المسيحيون لتحريرها:
فقد قال للسامرية:
* "صدقيني أيتها المرأة، إنها تأتي الساعة تعبدون فيها الآب لا في هذا الجبل (كاريزيم الخاص بالسامريين) ولا في أورشليم (بحسب اليهود والأرثوذكس)...

فالعابدون الحقيقيون يعبدون الآب بالروح والحق... لأن الله روح، والذين يعبدونه بالروح والحق ينبغي أن يعبدوه". (يوحنا 21:4و24)

- ولأن المسيحيين الغربيين حاربوا المسيحيين الشرقيين البيزنطيين وقتّلوا منهم وهدموا كنائسهم، ولا يزال هؤلاء يذكرون بمرارة مرور أولئك "البرابرة".

- سوسيولوجياً، الرئيس الأميركي لا يمثل "المسيحية" لكي يعتبر أن هناك معركة ناشئة بين المسيحية والإسلام.

- ولا يختصر "الغرب" ليتكلم باسم الغرب, ويقود "صليبية علمانية", أي معركة أو حملة شاملة ضد الإسلام, معتبراً الإسلام "العدو الأخضر", بعد أن تلاشى "العدو الأحمر" أي الإتحاد السوفياتي.

• بن لادن
وعندما يصبح "بن لادن" الناطق العالمي باسم الإسلام, أكان ذلك بإرادته، أم بإرادة الذين وراءه أو فوقه، أو بسبب وسائل الإعلام الغبية أو المتذاكية، التي تظن أنها قادرة أن تحلل كل حدث، وأن ترى خفاياه.

عندما يصبح "بن لادن" المعتبر عند الكثيرين كالمسلم المؤمن الصوفي العرفاني, العالم بمصلحة الأمة الإسلامية أكثر من جميع الأئمة في بلاده وباقي البلدان الإسلامية, العربية وغير العربية.

عندما تتجند الصحافة العالمية، ومن أهمها تلفزيون الجزيرة لأجل إظهاره كفرد في مجابهة الدولة العظمى في عالم اليوم.
عندئذ تصبح الالتباسات عديدة جداً.
- بين الإيمان والدين الإسلامي.
- بين الدين والسياسة.
- بين القيادة الدينية والقيادة السياسية.

* جوامع مشتركة مقترحة
سنة 1976، نظمت الجماهيرية الليبية مع الفاتيكان ندوة حوار إسلامي، اشترك فيها 600 ممثل عن دول وهيئات دينية. وتأزم الحوار بين ستة محاضرين مسيحيين ومسلمين وطلبت الكلام، وكانت لي مداخلة أنهي فيها كلمتي:

- أقترح أن تخرج الندوة ببعض التوصيات أو المقررات أقله على صعيد التحاور الديني والتحاور المجتمعي اللذين دارت مواضيع الندوة حولها.

فعلى صعيد التحاور الديني أقترح أن يتفق المشتركون على صيغة إيمانية كحد أدنى من اللقاء الأكيد بين الجانبين يمكن الإضافة إليها في المستقبل كل قاسم مشترك أو بالأحرى كل "جامع" مشترك جديد.

واقتراحي المتواضع هو هذه الشهادات المشتركة:
- نشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له ولا كمثله شيء.
- نشهد أن الله أكبر، أكبر من كل ما سواه، لا سيما الأصنام والآلهة التي يخترعها عالم اليوم.
- نشهد أن الإنسان صورة الله، خليقة الله الكبرى، وخليفة الله على الأرض، والغاية التي من أجلها خلق الكون وسخر كل ما فيه، بل من أجله كانت الأنبياء والرسل، وأن كل إيمان بالله لا يصبح إيماناً بالإنسان والتزاماً بقضاياه هو إيمان ناقص.
- نشهد أن المسيح، عيسى ابن مريم، كلمة الله ورسول منه إلى الإنسانية جمعاء.
- نشهد أن محمداً رسول الله ونبي من الله للإنسانية جمعاء.

أما على صعيد التحاور المجتمعي فأقترح أن تتخذ الندوة مواقف واضحة بالنسبة للقضايا الهامة لا سيما:
- القضية الفلسطينية
- قضية تحرر الشعوب
- قضية السلام ومعركة التسلح النووي
- قضية الأقليات العنصرية أو الدينية وضرورة إعطائها جميع الحقوق الإنسانية التي لباقي المواطنين.
- قضية المساواة الحقيقية.
- قضية قيمة الإنسان المطلقة.

____________________________

(*) الكلمة المرتجلة
شكراً، وأنا أيضاً افتخر بأن يكون اقتراح هذا العام عام حوار الحضارات قد جاء من ايران، افتخر لا لأن السيد خاتمي هو قريب لأخينا المغيب الإمام موسى الصدر واخته العزيزة السيدة رباب الصدر، ولكن لأنه فتح فتحاً مبيناً بهذا العمل، لماذا؟ منذ خمس عشرة سنة كنت في باريس وكان هناك محاضرة من أحد الآباء الأجانب في قاعة جامع باريس حول الحوار، وعندما انتهت المحاضرة جاءت أسئلة متعددة، ومن الحضور شاب ملتح وعلى هيئته شيء من الايرانية، قام وقال: "كيف نحن المسلمون نرضى بالحوار؟ اليهودية هي المدرسة الابتدائية والمسيحية هي المدرسة الثانوية والاسلام هو الجامعة، والذي يصل إلى الجامعة كيف يمكنه أن يرجع ويتحاور مع اللذين لا يزالون في الصفوف الابتدائية وفي الصفوف الثانوية؟ وجاء خاتمي وقال نحن جميعاً في الابتدائية.

وفي ذلك ما فيه من الثورة على مقولات اسلامية، أن الاسلام هو خاتم الديانات، وان الخاتم لا يمكن أن يرجع إلى الوراء. طلب أن يكون هناك حوار حضارات، وضمن الحضارة مفهوم ديني، ولا شك قبل أن يكون هناك حوار بين الاسلام والمسيحية، يعني ذلك أنه رضي بأن لا تكون المقولة بأن الاسلام هو الكلمة الأخيرة للأديان ولا يقبل الله إلا الاسلام ديناً كما يقول القرآن الكريم وكما يُفسر القرآن الكريم.

إذاً هناك مفهوم جديد، هناك ثورة جديدة عند خاتمي، وهذا نحن نفتخر به، ونظن أنه فتح جديد يمكن أن يتطور شيئاً فشيئاً لكي يكون هناك حوار حقيقي بين الحضارات وبين الديانات وبين الايمانات إذا صحّ التعبير. هذا مهم جداً. وهذا ما لا يقول به الكثيرون من المسلمين ولا يقول به الكثيرون من المسيحيين.

المسيحييون يقولون ان المسيح ابن الله، جاء إلى الأرض وجاء بالكلمة الأخيرة. ليس هناك من نبي يمكنه أن يأتي ويقول غير ذلك ويعيد النظر بما قاله ابن الله. اذاً هناك أيضاً عند المسيحيين رفض للحوار. عندما يظنون أن ايمانهم الحقيقي هو الذي يتجمد في بعض المقولات التاريخية، اذاً تجاوز هذه المقولات التاريخية هو شرط كما قال سماحة السيد، هو شرط كي يكون هناك امكانية الأخذ والعطاء بين اللذين هم مؤمنون مسيحيون وهم مؤمنون مسلمون.

أمر ثانٍ أريد أن أقوله، لن أقرأ عليكم عشرين صفحة مملة، أظن أنني سآخذ بعض الأمور التي فيها وأتجاوب مع ما قاله سماحة الشيخ، الأمر الثاني هو أن هناك في أكثر الأحيان نوع من التماهي بين الحضارة والدين وهذا يمكن أن يتم في الاسلام أكثر منه في المسيحية.

في المسيحية يقول المسيح: "مملكتي ليست من هذا العالم" والحضارة هي مملكة من هذا العالم، كل حضارة لا يمكن أن تنسب إلى المسيحية. المسيحية يمكنها أن تؤثر في الحضارات جيلاً بعد جيل، يمكن أن يكون هناك حضارة مسيحية فرنسية، حضارة مسيحية اميركية، لكنها حضارة مسيحية بمعنى غير دقيق. ليس هناك من حضارة مسيحية بالمعنى الحقيقي.

بينما هناك حضارات اسلامية وليس حضارة واحدة. هناك خمس وأربعون دولة اسلامية في العالم كل دولة يمكن أن تدعي أن لها حضارتها المميزة عن حضارة الأخرى وهذا من صلب الايمان الاسلامي، وهذا يتمايز به الاسلام عن المسيحية.

ويجب أن نقبل بهذا التمايز ونقبل ببعضنا البعض، نحن المسيحيون إذا أردنا أن نؤكد على حضارة من الحضارات أنها مسيحية نكون ضد الانجيل، ولكن عندما يقول الايراني أن هناك حضارة ايرانية اسلامية لا يكون ضد القرآن بل يكون في صلب القرآن لأن القرآن يقول بأن الدين الإسلامي دين ودنيا ويتجسد في الحضارات الدنيوية.

إذاً المهم جداً ثانياً أن نميز بين حوار الحضارات وحوار الأديان. عندما نسمع سماحة الشيخ يقول إن الحضارة الاميركية تقول كذا وكذا وكأنها هي الحضارة التي تجابه الحضارة الإسلامية وكأنها من منطلق مسيحي تجابه الحضارة الإسلامية. نحن نرفض أن يكون هناك "بوش" يتكلم باسم المسيحيين. عندما يقول بوش بأنه يقوم بصليبية جديدة، من هو ليتكلم عن المسيحية ويتكلم عن الصليبية بصليبية جديدة؟ من هو ليتكلم عن المسيحية ويتكلم عن الصليبية؟ ومن أين يمكنه أن يعطي للصليبية معنى ايجابياً في عصرنا؟ ونحن نعرف أن المسيحية في العالم كله قد نبذت ما كان في الصليبية في التاريخ الماضي من عنف ومن انقلاب ومن نوايا دفاع عن بعض المسيحيين الذين يريدون أن يرتادوا قبر المسيح ويظنون أنهم ممنوعون من ارتياد هذا القبر بسبب المسلمين، وجاؤوا من الغرب جاهلين الأوضاع الحقيقية. وصلوا إلى هنا وأسسوا الممالك وحاربوا الارثوذكس أكثر مما حاربوا المسلمين وتحالفوا مع المسلمين ضد الارثوذكس. عندما نعلم ذلك لا يمكننا أن نعطي لكلمة صليبية أي معنى ايجابي في عصرنا وعندما يقول ذلك بوش يكون لا يفهم. هناك كلمة في الفرنسية Boucher يعني المسطول.

... يقول وزير الثقافة أن Boucher معناها الجزار. نحن نحترم بوش ولو كان معناه الجزار نحن نحترمه لأن المطلوب في ايماننا المسيحي أن نحترم كل انسان وأن نصلي من أجله كي يفتح الرب عقله كي يتمكن من فهم العالم.

منذ شهر مررت على شاشة تلفزيون Télé Lumière، وكان الحوار حول هذه المواضيع وكانت لا تزال في ساعاتها الأولى، فقلت إن السياسيين عندنا وفي هذا العالم لا يفهمون شيئاً في السياسة، إنهم أميون سياسيون عدا بعض الوزراء، الثقافة مثلاً تلميذي كان عمره ثماني عشرة سنة عندما تعاونا معاً ( يشير بذلك إلى وزير الثقافة الدكتور غسان سلامة الذي يرأس الجلسة) سأخبركم عنه في نهاية الحديث اذا أردتم.

إذا عندما يتبجح بوش هكذا ويرد عليه ابن لادن وكأنه يمثل الاسلام، بأي حق يمثل الاسلام؟ ماذا يفهم عن الإسلام كي يمثل الاسلام؟ إذاً يكون هناك صراع بين اسلام غير صحيح وبين مسيحية غير صحيحة، والعالم كله ينقسم إلى معسكرين متناحرين وهو من الاسلام والمسيحية براء.

هنا حوار الحضارة التي يدعو اليها خاتمي أن نعرف كيف يمكننا أن نصل إلى حضارة عصرية، اسلامية، مسيحية، بوذية، علمانية، حواراً عصرياً نعرف فيه قيم الانسان نعرف كيف يمكنها أن تتلاقى وأن تتحالف لكي تناهض كل ما هو ضد الحضارة وضد الايمان الاسلامي، وكل ما هو ضد الانسان المسيحي، يجب أن نعرف نحن المؤمنين بالله الحقيقي، أن لا إله إلا الله حتى ولو سميناه الآب والابن والروح القدس هو اله واحد، ليس عدة آلهة، نحن مؤمنون بهذا الإله، مؤمنون بمتطلبات هذا الايمان، بتغير العالم نحو الروح لا نحو المادة. المطلوب منا أن نتلاقى، أن نتعاون عملياً يوماً بعد يوم كما كنا نتعاون مع الإمام الصدر الذي كان لمدة خمس سنوات عضواً في الحركة الاجتماعية التي أنشأتها أنا منذ أربعين سنة، وعرفت بوجوده في صور وذهبت اليه لأعرض عليه التعاون ورحب بالتعاون، خمس سنوات قبل أن يصبح الإمام. وكنا نتحاور يومياً دون أن نتحاور عقائدياً. كنا نتحاور يومياً، كنا نتحاور بمتطلبات العمل الاجتماعي الاقتصادي، للمحرومين كما يسميهم هو في بلادنا، هذا الحوار يجب أن نرجع اليه، يجب أن نرجع إلى الحوار الايماني لا الحوار الديني، الديني يعني العقائدي، والعقائد نحن مختلفون في العقائد، ويجب أن نقبل أن نكون مختلفين. الحوار في الايمان، في عمق الايمان في الصوفية، في العرفانية كما يقال في ايران، في العرفان الذي يمكننا من الوصول إلى عمق الله والاتحاد في الله.

يجب أن يكون هنا الحوار وفي الأخلاقيات وفي متطلبات العمل الاجتماعي والاقتصادي لعالم أفضل من عالم اليوم، وأن يكون هناك في الطرف الآخر حوار على صعيد السياسة، والسياسة صعب جداً الحوار عليها، لانها مكان الجزئيات ومكان التقلبات ومكان النسبيات ومن الصعب جداً الوصول إلى حوار حقيقي في السياسة، ولكن هناك امكانية للحوار في السياسة خاصة إذا درس سياسيونا في المدرسة التي سوف نفتحها عن قريب لكي يتعلموا السياسة ويعرفوا كيف يتحاورون.

اذاً كل هذا الكلام السابق لن تجدوه في الأوراق، قلته من وحي كلام سماحة الشيخ، ومن وحي الفرح الكبير أن تكون السنة العالمية انطلقت من ايران لأجل حوار الحضارات، وهذا له رمزيته الكبرى. أن لا يكون الحوار انطلق من اميركا أو من فرنسا أو من أي بلد يقال عنه أنه مسيحي، وليس هناك من بلد مسيحي في العالم. نحن نفتخر أن يكون انطلق من هناك وأن لا نكتفي بمؤتمرات كمؤتمر اليوم، وهو مؤتمر عظيم جداً، خاصة عندما نصل إلى كلمة سواء، كما ترون إن الكلمة السواء فيما بيننا عندما نصل إلى العمل وإلى التعاون اليومي، والتعاون بدأ منذ زمن طويل عندما بدأ بيننا وبين أخت الإمام وبين مؤسسات الصدر وبين ابن الإمام الذي هو مفخرة كبيرة ويمكنه أن يعطي الكثير بعد للبنان، خاصة من خلال مركز الابحاث والدراسات الذي يعمل فيه. هذا يجب أن يكون حوارنا اليومي لا مرة فقط في السنة نلتقي للحوار. حوارنا اليومي على صعيد الايمان، على صعيد الروحيات، على صعيد العلاقة مع الله، على صعيد العمل الاجتماعي، على صعيد الحياة اليومية التي تمكننا من خلالها أن نغير في هذا البلد. (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما في أنفسهم)، فلنغير ما بأنفسنا لكي يمكننا أن نغير ما في هذا البلد ونسهم في تغير العالم قدر الامكان وشكراً.