تقديم بقلم الشيخ علي حجتي كرماني

الرئيسية إصدارات الإمام (كتب / كتيبات) الاسلام وثقافة القرن العشرين

قبل قرنين من حدوث اي تحوّل في اسس المجتمعات الاوروبية، كان العالم الاسلامي قد شهد تحولًا عظيمًا. فبعد عصر الرسول (ص) انطلقت القبائل البدوية في الجزيرة العربية التي اتحدت فيما بينها تحت لواء السلام، نحو البلدان الاخرى. ولم تمض مائة عام على بعثة الرسول (ص) حتى وصل المسلمون الى اسبانيا عبر شمال افريقيا واجتازوا مضيق جبل طارق، كما وصلوا الى ايران والهند عن طريق ما بين النهرين.
حدث التحول في المجتمع الاسلامي الرصين بفعل الازدهار والتلاقح الثقافي، وشق طريقه نحو الرقي. وبدأ العقل النَّقاد بالعمل في ظل الايات الالهية، وطالع كافة الشؤون العملية والنظرية للحياة الانسانية؛ فصاغت الثقافة الاسلامية شخصيات علمية كبيرة.
نفذت الثقافة الاسلامية بكل شؤونها الى الثقافة المسيحية. وغيرت الادوات والبضائع الشرقية التي انتقلت الى اوروبا خلال التعامل التجاري والحروب الصليبية، الحياة الاجتماعية في اوروبا. وواضح ان مثل هذه المنجزات قد اثّرت في تقويض جدران اوروبا القديمة وإحداث الثورة الصناعية.
ولم يكن الاوروبيون حتى وقت متأخر على علم كافٍ بالتأثير العظيم الذي أحدثه الشرق الاسلامي في الحضارة الجديدة! بل لم يبادر حتى المؤرخون الاوربيون كما ينبغي، لدراسة المنجزات الفكرية للفتح الاسلامي لاسبانيا، وكذلك المعطيات الثقافية للحروب الصليبية والمكاسب التجاربة القديمة بين الشرق والغرب، او انهم تعمَّدوا عدم التطرق اليها!
فمع انهم – مثلًا – يحترمون غاية الاحترام آثار أرسطو، تراهم لا يعيرون أهمية لحقيقة ان تلك الاثار قد وصلت الى اوروبا عن طريق المسلمين. ويبدو انهم قد نسوا ان هذا الاثار قد وصلت الى اسبانيا بواسطة المسلمين ثم تُرجمت ووضعت بين أيدي الاوروبيين! غير ان عددًا كبيرًا من المفكرين الاوروبيين قام مؤخرًا بإجراء تحقيقات جريئة حول الثقافة العالمية وقدم حقائق قيمة بعيدة عن أي تحيز. لقد استانف هؤلاء دراسة الملامح الاصيلة للبحث العلمي فأكدوا أفضلية الاسلوب التجريبي الذي مارسه العلماء المسلمون. يقول الكساندر فون هومبولدت: (Alexander Von Humboldt) في الجزء الثاني من كتاب Kosmos:
"يجب ان نعتبر العرب، المؤسسين الحقيقيين للعوم الفيزيائية".
كما ان جورج سارتون (George Sarton) – الذي يعد بلا شك أكبر مؤرخ علمي في العالم المعاصر – ذكر في الجزء الاول من كتابه المهم "تمهيد على تاريخ العلم":
"... رغم ما يحظى به العالم اليوناني من تقدير، لكن يجب الاشارة الى ان هذا العالم ناقص للغاية على الصعيد التجريبي ... ان أحد أهم نجاحات القرون الوسطى – وفي الوقت نفسه اقلها كشفًا – هو إيجاد روح التجربة التي هي في الاساس مدينة للمسلمين حتى نهاية القرن الثاني عشر".
وكتب "دوهرينغ" ايضًا:
"كانت النظريات العلمية لروجر بيكون أقوى وأكثر سدادًا من نظريات سميّه فرانسيس بيكون، لأنه قد اكتسب آراءه العلمية عن الجامعات الاسلامية في الاندلس. والفصل الخامس من كتابه Opusmaius الذي تناول فيه " البصريات"، هو في الحقيقة مستنسخ عن كتاب "المناظر" لابن الهيثم، كما ان كتاب "بيكون" بذاته شاهد حي على انه متأثر بابن حزم".
كما نجد "بريفولت" يعترف بصراحة منقطعة النظير فيء كتابه "بناء الانسانية" Making of Humanity حين يقول:
"درس روجر بيكون اللغة والعلوم العربية في مدرسة اوكسفورد على يد تلامذة الاساتذة العرب الاندلسين. وليس من الحق ان نعدّه مع سميّه فرانسيس بيكون – الذي علا نجمه في عالم العلم من بعده – من المبتكرين للعلوم التجريبية، حيث ان روجر بيكون كان حاملًا لعلوم العلماء المسلمين، وقد أدى رسالته على هذا الصعيد في اوروبا المسيحية. وهو لا يانف من حقيقة ان تعلمه للغة والعلوم العربية، قد ساعده على معرفة الحقائق.
واما المناقشات والمناظرات الجارية حول المؤسسين الحقيقيين للمدرسة التجريبية والتي يراد من خلالها إرجاعها الى المفكرين الغربيين، فليست في الحقيقة سوى تحريف مأساوي للحقائق التي يجب البحث عن جذور تحريفها في "الحضارة الاوروبية"؛ هذا في حين ان الاسلوب الذي قدمه المسلمون في العلوم الطبيعية عن طريق التجربة قد انتشر ضمن دائرة واسعة في عصر بيكون بحيث ان سائر ابناء اوروبا كانوا منهمكين في دراسته بثقة مشفوعة بمزيد من الحسرة. فلو ظهرت نقطة مضيئة على صعيد بحوث العلوم الطبيعية في إحدى نواحي اوروبا، فمن المؤكد انها قد تأثرت بإشعاعات وعظمة الثقافة الاسلامية.
فنحن لسنا مدينين للعرب المسلمين على صعيد ما قدموه لنا من اكتشافات واختراعات مهمة فحسب، بل اننا مدينون لهم ايضًا على صعيد موهبة العلم عمومًا لأننا نعتقد بانه لم يكن هناك علم بالمعنى الحقيقي في العالم القديم، ولم يكن تأسيس المذهب التجريبي ينسجم مع طبيعة أسلوب العلوم اليونانية! وقد ظهرت البحوث العلمية بهذا الاسلوب لاول مرة بالاسكندرية وفي عصر هيلانة.
واما ذلك العلم الحقيقي الذي ندّعيه، فنحن مدينون فيه للمسلمين. فنحن ندين لهم في تقليد المذهب التجريبي والاقتباس منه، والتطور في الرياضيات، وبصورة عامة في التحول بالعلوم الطبيعية الذي لم يكن لدى علماء اليونان اقل اطلاع عليه. وتلك الروح العلمية الوثابة، هي التي نفد أسلوبها الخاص العظيم الى البلدان الاوروبية عن طريق العرب المسلمين".
فرغم ان أعداء الاسلام – الذي تصدى لهم الاسلام اعتمادًا على الايمان والعلم والفضيلة – حاولوا الاستهانة بالثقافة الاسلامية التي تمثل سورًا منيعًا وثروة عظيمة، وسعوا لمحوها من الاذهان وختمها بختم النسيان، وبذلوا جهودهم لتجاهل الفكر الاسلامي، والعلوم الاسلامية، والشعر والفن الاسلاميين، والاخلاق والاداب والتقاليد الاسلامية، والقيم الاسلامية العليا، والفلسفة الاسلامية، والسياسة الاسلامية، والفقه الاسلامي، والتزام الصمت حيالها او نعتها بالقديمة والرجعية!...
ورغم ان العداء للاسلام وللثقافة الاسلامية كان مستفحلًا بحيث أصبح جانب عظيم من التراث الاسلامي في طي النسيان، لا سيما بين الشباب المتعلم وأساتذة الجامعات والمثقفين، وتصوَّرّ أغلبهم ان ما عليه البشرية اليوم من علم وثقافة ومدنية انما هو حصيلة القرون الاربعة الاخيرة التي تلت النهضة الاوروبية! ولا دور ابدًا للشعوب والامم الاخرى – لا سيما المسلمين – في هذا التحول الكبير في الثقافة والحضارة العظيمتين!...
ورغم ان الحروب الصليبية، التي قدمت للغرب المسيحي الشيء الكثير مما يتعلق بالمسلمين، قد أُسدل عليها عن عمدٍ ستار النسيان وقلما تناولتها الاقلام بالتحليل التاريخي؛ فالمسيحية الغارقة في ضلال وعتمة القرون الوسطى، استطاعت خلال الحروب الصليبية ان تكسب من الاسلام والمسلمين الانطلاقة الفكرية، والتنوير العقلي، والاكتشاف والتجربة، والعلم والادب، والاخلاق الانسانية، لكنها نسبتها الى نفسها وادّعت انها تريد ايقاظ الشرق الاسلامي وتعليمه!...
ورغم سعي الصليبيين للحكم على الثقافة الاسلامية بالخطأ وإسدال ستار النسيان عليها وإظهارها عديمة الاهمية وبائدة، وتربية الشباب في معزل عنها، واقصائها ثم القضاء عليها، انطلاقًا من علمهم ان الاسلام متجذر في أرواح المسلمين وضمائرهم، وان الضمير الاسلامي متأصل في السُّنة الاسلامية، والاخيرة متأصلة في الثقافة الاسلامية!..
ورغم ان فئة كبيرة – مع الاسف – من المثقفين وأهل العلم البسطاء السطحيين في العالم الاسلامي، تصوّروا ان كل هذه الخطط الماكرة الكاذبة هي أساليب صحيحة، فخُدعوا بمكرهم وتخلوا عن استقلالهم الفكري والعقلي والثقافي، وأخذوا يكرون في صحراء التبعية الفكرية والانهزام الثقافية دون حياء او خجل؛ بل مع التباهي والفخر! وهم لا يدرون – مع الاسف – ان النهضة الغربية ورأسمال المنظمات الاوروبية هي دروس تلقتها من رؤية الحياة الناصعة للمسلمين المؤمنين العاملين بالاصول الاسلامية خلال الحروب الصليبية. كما انهم – ومع الاسف ايضًا – لا علم لهم بالحقائق التالية:
• كان تأثير الفلسفة الاسلامية في الثقافة الغربية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين قويًا الى درجة كان لا بد معها من ظهور ردود فعل غربية معاكسة تمثلت فيما عُرف في القرن الخامس عشر بالنهضة او الانبعاث (رنسانس)، والذي هو في الحقيقة نزعة نحو الاغريقية وفرار من الاسلام!...
• برزت خلال الحياة البشرية نهضتان لا ترقى اليهما أي نهضة او حركة أخرى، ولا يمكن ان تقاس بهما؛ الاولى: الحركة الاسلامية العالمية، والثانية: حركة النهضة في الغرب؛ وكلاهما وليدتا الاسلام.
• لقد أقر الجميع في هذا العصر بتأثير المسلمين الفائق والبارز في تاريخ الحضارة الانسانية.
• ان ثمرة العلم الاسلامي لم تجف بالغزو المغولي، الا انها لم تُستثمر من قبل اولئك الذين غرسوا شجرة هذا العلم – أي المسلمين – بل وصلت كل تجارب وفرضيات ومناهج علماء الاسلام بشكل مباشر الى ايدي الاقطاعية الدينية الاوروبية التي كانت في حالة نمو ...
فرغم هذا كله – مهمًا كان مُرًا – سنقدم هنا مجموعة من الاعترافات الصريحة والشجاعة لبعض الشخصيات الواعية والواقعية، والناطقة بالحقيقة، والبعيدة عن العداء والعناد، لنرى كيف ان هؤلاء قد جهروا بالحق والصدق، ولنشعر من خلال ذلك بالسرور ونعلق الامال على بقاء الانسانية والاصالة والفضائل.
وفيما يلي اعترافات فئة غربية واعية مرموقة لم تركن الى ثرثرة المؤسسات الاستعمارية للاستشراق بل بادرت الى تبيان الحقائق الحقة بانصاف، بعيدًا عن التحيز واللجاج ومن خلال الضمير الناصع والافكار النيرة.
كما نقدم اعترافات مجموعة من مثقفي وباحثي العالم الاسلامي ممن نهلوا من النبع الصافي للعلم والثقافة والحضارة، ولم يتشبثوا بسراب الاجنبي، او يتيهوا او يظماوا في واديه الحارق!
وانه لحري بالجميع – سيما الشباب والطبقة المتعلمة والجامعية – ان يطالعوا هذه الاعترافات بدقة ويدرسوها ويقيموها، كي يفتحوا امامهم، من خلال ذلك، نافذة مضيئة على الثقافة الاسلامية الباهرة. ونبدأ اعترافات المفكرين الغربيين الواعين المنصفين، بالاعتراف الحماسي للفيلسوف الفرنسي الشهير "فولتير":
1- يقول "فولتير":
" خلال فترة الهمجية والجهل وبعد انهيار الامبراطورية الرومانية، أخذ المسيحيون كل شيء عن المسلمين (كالهيئة والكيمياء والطب والرياضيات وغيرها).
والاسلام مدين في وجوده الى عبقرية مؤسسة، في حين ان المسيحيين قد فرفضوا دينهم على الاخرين بقوة السيف والنار.
إلهي! ليت الشعوب الاوروبية اتخذت من نهج الاتراك المسلمين قدوة لها".
2- يقول برتراند راسل:
"ان الثقافة الممتازة للعالم الاسلامي وان تبرعمت في سوريا، الا انها سرعان ما ازدهرت في الطرفين الشرقي والغربي له، أي إيران وأسبانيا. ففي حوالي 1830 م نشر محمد بن موسى الخوارزمي – وكان مترجمًا لكتب الفلك والرياضيات عن اللغة السنسكريتية – كتابا تُرجم في القرن الثاني عشر الى اللغة اللاتينية تحت عنوان "الخوارزمي في باب الارقام الهندية". وتعلم الغرب لاول مرة من هذا الكتاب. ولهذا المؤلف كتاب آخر في الجبر كان حتى القرن السادس عشر أحد الكتب الدراسية الغربية ... ومنذ القرن الثاني عشر وحتى القرن السابع عشر كانت آثار الشيخ الرئيس ابن سينا – الفيلسوف والطبيب الايراني المسلم – دليلًا للطب في اوروبا".
3- جورج سارتن، كتب حول السَّبْق الاسلامي في العلم والثقافة: "... منذ منتصف القرن الثامن الميلادي وحتى القرن الثاني عشر (أربعة قرون) كانت الثقافة اللاتينية تأتي بشكل مطلق بعد الثقافة الاسلامية...
فالجمود الفكري الذي شهدته اوروبا والشرق الادنى بشكل خاص في النصف الاول من القرن الثامن الميلادي، قد أعقبته مرحلة التجدد في النشاط. وهذا الامر مدين الى حدِّ ما للسبق الاسلامي. فالدراسة الدقيقة لآثار جابر بن حيان من ضروريات مهام التحقيق وأكثرها مدعاة للتفاؤل وقد قامت كافة النشاطات الرياضية لهذا العصر (عصر جابر بن حيان – النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي) على ايدي المسلمين".
4- ويل ديورانت، الذي خص الاسلام بجزء من كتابه "قصة الحضارة" وتحدث هذا الجزء عن الملاحم الاسلامية العظمى، نراه يعترف في النهاية بانه لم يوف الاسلام حقه، وان ما قاله لم يكن سوى قطرة من بحر. فهو يقول:
"لقد افتتح اول معمل للورق في البلاد الاسلامية عام 178 هـ/794م ببغداد على يد الفضل بن يحيى ـ وزير هارون الرشيد. ثم نقل العرب هذه الصناعة الى صقلية واسبانيا ومنهما الى ايطاليا وفرنسا...
وحسب اليعقوبي (المؤرخ المسلم الشهير) كان في أيامه (278 هـ/791 م) ببغداد أكثر من مائة محل لبيع الكتب، وكان فهرس الكتب الموجودة في المكتبة العامة بالري يتألف من عشرة مجلدات. واشتغل الجغرافي المعروف (ياقوت الحموي) مدة ثلاث سنوات في مكتبة مرو وخوارزم لجمع المعلومات لكتابه "معجم البلدان". وكان لبعض الفضلاء من أهل العلم كالصاحب بن عباد، كتب تعادل كتب المكتبات الاوروبية قاطبة!...".
5- وكتب "حنّا الفاخوري" في كتاب تاريخ الفلسفة في العالم الاسلامي:
"وضع الاسلام حدًا لأعمال السحرة والعرافين في شفاء الامراض. وانبرى المسلمون لتعلم العلوم الطبية فبرعوا فيها بحيث كانوا معلمين للاوروبين حتى القرن السابع عشر، وكان لحكما الاسلام دور عظيم في الكيمياء والصيدلة... وكان اول من اشتغل بهذا العلم هو خالد بن يزيد الملقب بحكيم آل مروان. الا ان اشهر من امتهن الكيمياء على الاطلاق هو "جابر بن حيان". ويرى "برنلو" صاحب كتاب "الكيمياء في القرون الوسطى" ان جابرًا كان في الكيمياء مثل أرسطو في المنطق.
وأبدى المسلمون رغبة عظمى في علم النبات كما هو الحال في سائر العلوم، ولهم بحوث كثيرة على صعيد علم الحيوان.
وقد الف "الدميري" في القرن الثامن الهجري كتابا في علم الحيوان يدعى "حياة الحيوان الكبرى" وصف فيه أكثر من (900) نوع من الحيوانات مع ذكر أسمائها وخصائصها وطبائعها.
وكان للمفكرين المسلمين اهتمام خاص بالرياضيات وفروعها كالحساب والهندسة والفلك والموسيقى ...
... وأخذ علماء الغرب علومهم عن أسلافهم الذين كانوا تلامذة مدرسة المسلمين، لكنهم رفعوا من شان التلامذة ونسوا الاساتذة!...".
ونقدم فيما يلي كلمات بعض المحققين الواعين عن أصحاب العقول النيرة في العالم الاسلامي:
1- يقول "عباس محمود العقاد" في كتابه عن "الحضارة الاوروبية":
"... المهم ان الاوروبيين قد أخذوا مشعل العلم من المسلمين فإنقذوا بنوره وضيائها انفسهم من عالمهم المظلم، ثم وصلوا به الى حيث وصلوا اليوم: اكتشاف أحدث العلوم. فلو لم يحمل المسلمون هذا المشعل ولم يأخذوه الى شرق العالم وغربه، فمتى كان بامكان الاوروبين ان يزيدوا من اتقاده؟ نعم انهم قد حصلوا ببركة المسلمين على هذا المشعل، وجعلوه أكثر إشعاعًا حتى انهم وصلوا خلال ثلاثة قرون الى ما لم تصل اليه جهود الانسان طوال القرون".
2- يقول "الدكتور علي سامي النشار" المصري في كتابه "مناهج البحث عند مفكري الاسلام":
"وقد لفظ الاسلام علوم اليونان الفكرية لفظًا قاسيًا، وحاربها أشد محاربة. كانت الروح الاسلامية تستمد مقوماتها من بيئة مخالفة وجنس مخالف وتصور حضاري جديد، وتنأى اشد النأي عن النظر في العلوم اليونانية الفكرية من ميتافيزيقا وفيزيقا وغيرهما. فكان من المحتم ان يكون لها منهج في البحث مختلف اشد الاختلاف عن منهج اليونان تستمد مقوماته من حضارتها العلمية، بحيث يكون طابع تلك الحضارة الاساسي وجوهرها الوحيد...
... ولقد أيقنت انني امام اعظم كشف عرفه العالم الاوروبي فيما بعد اكتشاف المنهج التجريبي في العالم الاسلامي في أكمل صورة. هذا علاوة على ابحاث اخرى هامة، سبق المسلمون الاوروبيين فيها ايضًا سبقًا تاما".
3- ويقول "احمد آرام" الكاتب الايراني والمترجم والباحث المعاصر الشهير:
"المسلمون الاذكياء الموحدون كانوا يمدون ايديهم الى كل ما كان يحمل صبغة المعرفة والعلم، سواء كان يونانيًا او هنديًا او ايرانيًا او صينيًا، كي يمكنهم عن هذا الطريق العمل بواجبهم التعليمي الديني، وكذلك إزاحة الحجب عن اسرار ومجاهيل العالم بهدف إعماره وبلورة منصب خلافة الانسان لله في الارض أكثر فأكثر...
... وقد ابتعد شبابنا عن المصدر الثمين للعلم وقلما يفكرون فيه فلو كان هناك – مثلًا – قاعدة "فرما" في الضوء، فإن لها معادلًا شرقيًا واسلاميًا على شكل قاعدة "ابن الهيثم". واذ كان عند نيوتن نظرية "ذات الحدين"(*) فينبغي البحث عن جذورها في اعمال الخيام والاخرين".
4- ويقول الباحث المعاصرالدكتور "زرين كوب" في كتابه القيم "سجل الاسلام":
"للثقافة الاسلامية تأثير عظيم على تقدم علوم الرياضيات والطب والكيمياء. وحتى القرن الثالث عشر كانت تتم ترجمة الكتب الاسلامية وشرحها في المدارس العليا (اوكسفورد) بشغف وشوق.. واشتغلت جامعة باريس مدة طويلة بالحكمة الاسلامية...
على اي حال لو عددنا كل ما كانت اوروبا مدينة به في القرون الوسطى وبعدها، للمسلمين، في الرياضيات والطب والكيمياء، لكان بلا شك رقمًا جديرًا بالملاحظة..."(**).
لكتاب الحالي أعزاءنا القراء، المجاهدين من اجل تحقيق الهوية والشخصية الاسلامية المضيَّعتين؛ والعاملين للعودة الى شخصيتكم الثقافية؛ انتم الثروة العظيمة اذ تعتقدون ان الاستقلال الشاكل للامة الاسلامية لن يتحقق الا في ظل الاستقلال الثقافي؛ دون ان يثنيكم عن تحقيقه مختلف العقبات والعراقيل بما فيها الاساليب المنحطة القائمة على النظرة الضيقة السطحية والرجعية لبعض الشراذم في العالم الاسلامي، ولن تبعث فيكم هذه الاساليب الكلل واليأس. ومن المؤكد انكم لم تحسبوا الامراض المشينة الطارئة على العالم الاسلامي الراهن – والناجمة عن ابتعاد المسلمين عن العقيدة والثقافة والمعارف القرانية – على إسلام التوحيد والعلم والمعرفة؛ إسلام الاخلاق والانسانية؛ إسلام الرأفة والمروءة؛ اسلام الاصالة والقيم؛ وبكلمةٍ: الاسلام الحقيقي، والاسلام المحمدي الاصيل.
الكتاب الحالي هو دراسة موجزة – بيد انها عميقة – لخصائص الثقافة الاسلامية على اصعدة التحقيق، والتجربة والتحليل، والفلسفة، وهو يحتوي على إشارات تمهيدية وتطبيقية حول مبادئ الثقافة الاسلامية؛ خلودها وتطورها؛ وحدتها وتماسكها؛ واخيرًا موقفها من الثقافات الاجنبية، والتراث الذي تقدمه للثقافة العالمية وثقافة القرن العشرين.
امل ان تفتتح مطالعة هذا الكتاب طريقًا مضيئاً امام تلك الفئة التي يرغب في معرفة الاسلام عبر الاساليب الاسلامية وتعتقد ان "الاسلام" و"المسلم" شيء واحد، واتمنى ان يكون هذا الكتاب دليلًا لها في الوقوف على عزة الاسلام وعظمته وسمو التعاليم والثقافة والمعارف الواهبة للحياة والمتسمة بالعمق والانسانية، الواردة في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة، وان تحظى بالاجر الدنيوي والاخروي. امين.

طهران – علي حجتي كرماني(***) 
1988
__________________________

(*) Binomial
(**) لمزيد من الاطلاع يراجع كتاب "علوم المسلمين" للاستاذ محمد رضا الحكيمي.
(***) استاذ العوم الاسلامية في جامعة طهران سابقًا.