في مطلع السنة الماضية طلبت الندوة اللبنانية اليّ ان ألقي فيها محاضرة بعنوان "الاسلام وثقافة القرن العشرين"، ونزلت عند رغبة مؤسس الندوة فلبيت الطلب، حيث وجدت ان هذا البحث الشيق دلالة واضحة على فاعلية الاسلام في هذا القرن وبرهانًا على خلوده.
ومنبر الندوة اللبنانية من أهم منابر الشرق العربي، يتكلم فيه كبار رجال الفكر والفن والسياسة في العالم، ويستمع الى محاضراته رواد العلم والباحثون عن الحقيقة، اما بحضورهم الندوات، او الاستماع الى موجزها بواسطة الاذاعة اللبنانية، او يقراونها في مجلة الندوة او على صفحات المجلات والصحف.
ولهذا فإن المحاضر في الندوة يجد امامه اذانًا صاغية وقلوبًا متفتحة وعقولًا ناقدة، كما يجد نفسه بين طبقة من قادة الفكر والمثقفين.
والقيت المحاضرة. ولعل القارئ الكريم لا يتصور مدى دهشة المستمعين لهذا البحث "الاسلام وثقافة القرن العشرين"، اذ انهم، وحتى المسلمين منهم، وجدوا في ماضي الاسلام وحاضره امورًا تفوق المعجزات وخدمات للعالم القديم والحديث تتعدى سائر الخدمات.
وانه حقًا لمعجزة الاسلام ان لا يفقد، بعد مرور أربعة عشر قرنًا، قوة خلق حضارة جديدة متكاملة ذات مبادئ اجتماعية واقتصادية رصينة، معجزة تضاف الى معجزات الاسلام حينما خلق تلك النهضة الثقافية الشاملة التى نرى في هذه المحاضرة صورة مصغرة عنها.
وكان لهذه المحاضرة طابع جديد جعلها من الدقة والحساسية بمكان. فقد كانت حلقة من سلسلة محاضرات "المسيحية والاسلام في لبنان" التقت فيها مع محاضرة اخرى القاها عميد الكلية الطبية الفرنسية فرانسوا دو برى لاتور وعنوانها "المسيحية والعلم الحديث".
والغرض من هذه السلسلة التي نظمتها الندوة اللبنانية ان يستمع الجمهور الى ابحاث منوعة من نتاج الفكر الاسلامي والفكر المسيحي، يتحدث عنها رجال العلم والفكر الملتزمين من كلتي الديانتين، فيتعرف الدارس الذي يعنى بهذه الشؤون على هذه الابحاث تعرفًا حقيقيًا ويتكون نوع جديد من تاريخ الملل والنحل يفوق الطريقة القديمة دقة وعمقًا واتزانًا.
واني اذ أقدم بكل اعتزاز وبكل تواضع هذه المحاضرة وما عرضت فيها من انتاج اسلامي كبير وأضواء كاشفة على تراثنا المشرق المجيد، اعتبر ان ما تصدى له بعض الغافلين او المتغافلين من ارباب البيان من التهجم على هذه المحاضرة وعلى هذه السلسلة من المحاضرات وعلى أهدافها القريبة والبعيدة، اعتبر كل هذا زيادة لي في الاجر والثواب.
وأعتقد ان في وضع نص هذه المحاضرة امام القراء جوابا كافيًا على التساؤلات، وللتأكد من سلامة أهداف هذه السلسلة من المحاضرات، ومن انها لم تكن على الاطلاق محاولة لتذويب حدود الدين وتخطي الحواجز وتحريف الكلم عن مواضعه. بل هي، على العكس تماما، سعي حثيث لإبراز معالم الفكر الديني والانتاج الاسلامي.
وأحب ان أؤكد ايضًا ان الهدف من هذه المحاضرات هو السعي لعودة الجيل المثقف الى التعرف الكامل على عقائده الدينية والتمسك المنطقي النير بحدوده ومبادئه، وان ما يقال من ان هناك محاولات لاذابة حدود الاديان وجمع الكتب الدينية في الطبع والبيان، كل هذا افتراءات ظالمة لا تستند الى اساس.
***
وان لما يشرف "معهد الدراسات الاسلامية" في صور ان يقدم هذه المحاضرة، وان يتلقى في الجواب آراء رجال الفكر ونصائح أصحاب العقول النيرة المنفتحة وذلك لكي يتمكن من جمعها وتقديم هذا البحث بصورة كاملة للعالم، للعلم، للضمائر الحية الباحثة.
لبنان – صور
الامام السيد موسى الصدر
محرم 1386 – ايار 1966