الجنوب المقاوم والثقافة الشعبية المقاومة - الدكتور منذر جابر

الرئيسية إصدارات كلمة سواء مؤتمر "كلمةٌ سواء" الرابع: الهوية الثقافية - قراءات في البعد الثقافي لمسيرة الإمام موسى الصدر

اليوم الثاني - الجلسة السادسة

الجنوب المقاوم والثقافة الشعبية المقاومة
الدكتور منذر جابر


يستوقفنا الحديث في أدبيات الإعلام والصحافة عن المقاومة تراثاً شعبيا، يحجز كل التاريخ العاملي السابق. لبث الجنوب دوماً في ثياب الميدان، لم تدع له الأحداث لساناً يغلب عليه قول في اجتماع محلي أو سياسة محلية، إذ كبر عليه دوماً أن يقتطع من الأحداث توقيعاً أو موقفاً خاصاً به. فالخطاب السياسي الفلسطيني واليساري والإسلامي، معقود منذ أواخر الستينات على القرى الجنوبية صامدة متصدية مقاومة. لا يحيد الجنوب عن التزام القضايا الكبرى ولا يتنزل عنها، أو يدعها ولو "ودعت الإبل الحنين". فقد بات الأمر تقليداً، وصار الجنوبي مدار الكلام ومقالاً لكل المقامات والأحداث، وغداً فاكهة في غير أوانها، لكل حين ومناسبة. لم يؤخذ الجنوب مرة من موقع المنطقة المعرفة بذاتها أناساً وأرضاً وقضية. وذلك أن الجنوب في اعتبار الخطاب السياسي ذاته، سريرة وجهيرة، أرض- فخ يستدرج العدو ليستنزف ويوقع به.

إن توطين "حب المقاومة" مبدأ لذة خالصاً في حاضر الجنوبيين ومستقبلهم، يستغرق منهم حياتهم وذريتهم وأملاكهم، هو تكليف للجنوبيين، يتعدى وسعهم "عشاق شهادة" منفردين وحيدين، ويتعدى وسعهم في انتماءاتهم والمذهبية المتعددة وتعلقها بمفاصل يستحضرها الإختلاف السياسي اللبناني في تأزمه المرتجل والسريع أو في أزماته المغروسة على طول مسيرته وتشكله. ويتعدى كذلك وسع الحدودين في مصالحهم وإمكاناتهم ومداخيلهم وعلة معاشهم، وقد باتوا مقطوعين في أعداد معتبرة منهم، وهم في أبواب رزقهم على زيغ في أعمالهم، يخرجون يتقوتون العمل في المؤسسات الإسرائيلية، أي أنهم لا "يخرجون من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله" كما تشخص الأوصاف القرآنية الكريمة خروج مشركي قريش الى معركة بدر.

توطين المقاومة فعل أبدي أزلي جنوبي، حديث جميل يدغدغ أحلامنا نحن الجنوبيين في نادي التوازن اللبناني، ويعطينا عيارات أكثر ثقلاً في ميزان هذا التوازن. ننام على حريره هانئين ما دمنا لا نستيقظ على اسئلة معلقة تكفي الأسئلة فقط. فالأسئلة هنا أجوبة بحد ذاتها.

أين الوطن ككل من المقاومة الجنوبية كتراث شعبي؟

أين الطوائف في لبنان من المقاومة كتراث شعبي؟

أين المناطق على امتداد الوطن من المقاومة كتراث شعبي؟

أين العصبيات والعائلات في الجنوب من المقاومة كتراث شعبي؟

أين صراعات الأطراف المقاومة فيما بينها من المقاومة كتراث شعبي؟

أين الحوار والاعتراف بالآخر من المقاومة كتراث شعبي؟

أسئلة سوف تبقى، من منظور التراث الشعبوي السياسي اللبناني، بدون جواب، لأنها أسئلة مطمورة من منظور التراث الشعبوي اللبناني نفسه. لأن الجواب على سؤال معمق، باب جديد نحو أحجية وحسابات جديدة، طالما زحنا عن الإجابة عنها أو عن المقاصة فيها. لا نجيب عنها من منظور التهذيب الوطني، أو من منظور الوحدة الوطنية، أو من منظور الظروف المعيوشة، أو من منظور البعد عن الشر دفعاً له.

ورب قائل هنا أن الجنوب كلمة تنوب عن تسمية الطائفة الشيعية في اصطلاح الوطن،تنوب كلمة الجنوب عن الطائفة اصطلاحاً في السياسة والجغرافيا. نتوقف إذن عند التساؤل عن موقف العصبيات المحلية الجنوبية من التراث الشعبي "المقاوم"؟

إن تأمير السلاح باب مقاومة وحيداً، واختلاف المناهج في المقاومة ما بين اسلامية أو وطنية إسلامية أو وطنية مؤمنة أو وطنية قح، جعل الموقف من المقاومة لا يتحدد ترسيمة طائفية أو مناطقية، ترتفع منارة على حدود الطوائف ومناطقها وحسب. إذ ان الاهتزازات التي تصيب المجتمع الشيعي الذي تغلب عليه صفة المجتمع المقاوم، تطعن في ركائز التكافل والتضامن الاجتماعيين وهي اهتزازات راحت تداول التأييد للمقاومة شكلا وهوية، مفسحة في المجال امام بروز خطوط الصراع العائلي والبلدي الكامن في المجتمع الجنوبي، المقيم منه في المناطق المحتلة أم النازح الى خارجه، وما كثرة الاحتفالات الخاصة "بأيام" القرى الجنوبية وبـ "ايام شهدائها"، سوى شبهات جديدة حول الوحدة والتكافل الاجتماعيين، حيث تبدو هذه المناسبات على مقاسات القرية والعائلة، ويندر أن نرى في الإحتفال البلدياتي الخاص حضورا غريباً عن حمى القرية او العائلة او الحزب المحتفل. يجتمع الأقربون حبا لغرة شهدائهم وحسب، ويصل الأمر احيانا الى نكران الشهادة، فعلا قام به آخرون، فيتم اسقاط اسمائهم من لائحة شهداء المحلة أو البلدة• يقتسمون الشهداء ولا يقتسمون المقاومة قضية.

وتاتي في السياق عينه المباهاة، امام الاقربين والابعدين، حين يتطوع طرف بتقديم شهيد مسيحي، يبقى مرفوعاً علما على طاقات مهدورة في المقاومة، وبالتالي علما على حقوق مهدورة في الموقع والمكانة السياسية. وغير بعيد عن ذلك ايضا التهاتت الدائر حثيثا في هذه الايام ما بين القرى الجنوبية أو بين عائلات فيها، وانقسام هذه العائلات جميعا ما بين قرية او عائلة تخدم في صراط الشهادة، وما بين الغاطس في سلك العمالة.

يدور هذا الصخب في بيروت وفي غير مدن من لبنان على نية الجنوبيين في صمودهم، فأين هذا الصخب من دوائر الداخل الجنوبي؟

لا يخرج اهالي الجنوب من قرية الى قرية ومن حي الى حي إلا برفقة عيون الجواسيس والحراس، او برفقة المسلحين انفسهم، يخرجون من قراهم الى قراهم ومن احيائهم الى احيائهم، بنظرات مستقيمة لا تستطرد الى اتجاه آخر، ابعد من مستوى حاجتها من النظر. لا يخرج اهالي الجنوب من جنوبهم الى وطنهم، او لا يدخلون من وطنهم الى جنوبهم، الا بعد ان يجدوا ما يجدون من ذل المعابر ومن نصب الانتظار. وما دام الجنوبيون هكذا مقطوعين في ارضهم عن خبزهم وعن ملحهم وعن اغانيهم، وعن اوفياء مجالسهم، محبوسين باللحم الحي، اسرى اوقاتهم واسرى حاجاتهم، يتشممون انفاسهم، ينتظرون في جانب من حياتهم في ساحات القرى بريد الموتى ياتيهم من المغتربات البعيدة في امريكا واستراليا، يحمل اليهم احباء قضوا مصهورين بحنينهم في الغربة الباردة، طالبين القرب في ترب الجنوب. او ينتظرون في جانب آخر، في زوايا منازلهم اخبار المقاومين يسيرون باكفانهم بدمائهم على اكفهم وقد اعاروا جماجمهم لله، فما دام امر الجنوبيين كذلك، انتظارات على العرق والدم، فهل سنصدق ان البقية القائمة في المناطق المحتلة رمق الاجتماع الجنوبي الاخير، تقيم هانئة على تراثها الشعبي الذي احتبك في وجدانها لمئات من السنين، اغان وامثالا وعادات وسلامات ومراتب واصبوحات، كانت تعطي الجنوبي في حياته نبرة الامر اليومي المطلق، الذي يتحكم ويقيم ميزان الروابط والعشرة والاحلام؟

اغفل المقيمون في الجنوب بعض تراثهم، وغفل النازحون والذين انقطعوا عن جنوبهم بدءا من حرب الجنوب 1976، وتشكل الشريط الحدودي المحتل، غفلوا عن حواشي هذا التراث حتى انقطعوا عنه، وهي حالة لم يألفها قبل 1975 نازحو القرى الجنوبية.

قبل 1975 كان النازح الجنوبي يعيد تأهيل انتمائه الى تراثه في الجنوب، في مواسم الصيف،مواسم القيضية، حسب التعبير الجنوبي. اشهر ثلاثة كان اطفال الجنوب بالاخص، يعيدون عبرها تزييت مفاصلهم الجنوبية، وكانت اقامتهم في المدينة دافعا لجنوبية اكثر. كان الطفل يعقد في وجدانه الداخلي، مقارنة بين هموم المدينة، وهي هنا المدرسة بقمعها وانضباطها وفروضها وعقوباتها، وهي هنا احزمة المدينة البائسة مقارنة بالبنايات الفخمة الفارعة، ناهيك بالطبع عن الحاجة والعوز يرمق الطفل الجنوبي، عاجزا عن الشراء، واجهات محلات المدينة بثيابها والعابها المعروضة. يعقد الطفل مقارنة في وجدانه بين هذه المنغصات في المدينة، وبين إقامة الصيف الهنية الرخية في الجنوب، يترك فيها حرا في مواجهة الشمس والنور والهواء والفضاء والملعب والصداقة والطريق والرفيق والحيوان والعشرة والمغامرة والجيران والاقارب والسهرة المفتوحة والاعراس، وهو في كل ذلك في حل من الوقت والكبت والمراقبة والمتوجب واللازم. هذه المقارنة كانت تعطي الطفل قربا وشغفا لتراث القرية في الغناء والامثال وروابط القرابة والصداقة ومآرب الطفولة والصبا ومراتع اللهو. عبر تلك الاقامة الصيفية كان تسلل التراث الجنوبي الى حياة الطفل المدني الجنوبي المولود خارج الجنوب يتم في رحلة ما قبل السبعينات. ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه الان: هل لفظ التراث الشعبي في الجنوب انفاسه، وانسل من روح الهيئة الجنوبية، فانقلبت على اعقابها في شخصيتها وعلاقاتها ومطامحها؟

الجواب كلا بالطبع، فهذا التراث، بما يعنيه من اواصر وانتماء وتقاوم مع الاحتلال، ما زال يتحرز الى الان، وفي حضن الايمان، في حمى اثنين من دفاعاته: شتلة التبغ وصدور امهات ونساء الجنوب.

لقد استردت زراعة التبغ عافيتها في الجنوب بعد انتكاسة كبيرة في الثمانينات وعادت الى عهدها المحسوب في اعداد المزارعين وكمية الانتاج والمساحات المزروعة. ويكمن دور هذه الشتلة في تراث الجنوب ووجدانه، انها تشبك قرى الجنوب على امتدادها، وقرى جنوبي الجنوب المحتلة تحديدا، فهي الخيط السحري الذي يصل ما بين فلاحي علما الشعب المسيحية وبين فلاحي جوارها المسلم، وكانت اصرة العلاقة بين فلاحي عين ابل وحزبييها البعثيين وبين ما يماثلهم من اهالي حانين. وكانت موحدا ما بين رميش حقولا وحارات وبيوتا وزواريب وازياء رجال ونساء ومواد حديث ولقاءات ومسارات، وما بين عيترون التي تفصلها عن رميش فراسخ من حقول التبغ، يمسك بطرفيها مزارعون من بنت جبيل ومزارعون من عين ابل.

عودة زراعة التبغ الى سدتها في حياة الجنوبي، مع انها زراعة هم ولقمة مرة، هي عودة الى تلك الروابط القديمة التي كانت تجدل ما بين مناطق الجنوب وقراه وطوائفه. وهو دور يبدو حاسما اليوم مع سياسة التفتيت الاسرائيلية التي تضرب ما بين جنبات الجنوب المحتل في بشره واقتصاده. والتي نجحت لوقت ان تؤسس في اقتصاد الجنوب محاور اقتصادية متجانبة، تقطعت في مصادر انتاجها وفي مداخيلها وفي ارتباطاتها. فأي عامل موحد يجمع مثلا ما بين فئات كانت قليلة أواخر الثمانينات، وكانت ما زالت على عقدها مع التبغ سنة حياة، وبين فئات تقوم على عملها مع قوات الطوارىء الدولية، وفئات تعتاش من مراكز الطوارىء وتندب بين الحين والاخر حظها الاقل سعادة مع ابدال النروجيين او الفرنسيين من قوات الطوارىء وهم الاكثر انفاقا، بآخرين من بولونيين وهنود، وبين فئات يقف شبابها طوابير على ابواب المؤسسات الاسرائيلية اواخر انصاف الشهور لقبض رواتبهم، وبين اخرين يبيعون حياتهم ومواقفهم في مزاد ما ينالونه لقاء خدمتهم في جيش العمالة، الى اخرين يقطعون ادغال الجنوب المحتل على دروب تهريب الدخان والحديد، الى فئات اخرى تغذ في اقامتها وارتحالها على دروب هجرة ما هم ان كانت قريبة ام بعيدة.

عودة التبغ الى حواكير الجنوب عودة بالهيئة الجنوبية الى دروب تفاعلها وتشاركها في اقتسام اللقمة وتمسيح العرق، اي الى ارض لقاءاتها الصلبة والى جدار تماسكها في مواجهة محاولات التفتيت والاقتلاع.

اما بالنسبة الى دور المرأة في حفظ تراث الجنوب، فإن خطابها اليومي يعطي التراث الشعبي والمقاومة طابع الورشة المتواصلة والمستمرة، فهو يمتد على حوارها الأسري مع ابنائها صغارا ام كبارا، ومع من يخالطهم من اصدقاء واصحاب ومعارف، ونعني بذلك تحديدا الدعاء الذي ينتشر على لسانها وكلامها بطول العمر وموفور الصحة وضمان السلامة، وتمني الغنيمة والفوز والنجاح والتوفيق وبلوغ المقصد وتحقيق الاحلام ودفع الشر والبلاء من العيون الحاسدة وقهر الحاقدين وموت العدوين، وغير ذلك من الأقوال التي لا تختار الكلمات او تتخير المواضيع، والتي درجت عليها ألسنة الامهات والاخوات والخالات والعمات والجارات، يغمرن بها اطفال وشبان العائلة او الحي او القرية.

والاساس في هذا الكلام انه يلابس مع الاحتلال، معان ودلالات لم تكن له من قبل، وهي دعوات تقع يماما على قلوب سامعيها وتاخذ بهم كما تاخذ الالحان بألباب اخوان الطرب.

هذه الوجهة في التعبير، حيث يعبر الكلام عفو الخاطر خالصا، ويصير بمنزله من المباشرة، الى الحد الذي يحاكي آلية السمع والنظر، هذه الوجهة تعطي الأدعية طعما حارقا، فمع حالات القلق والخوف والرهبة والحاجة والانفجارات وقرقعة السلاح وجولات الاعتقال وتعذيب المعتقلات وحملات التجنيد الاجباري، مع كل هذه المصاعب والمحن، تلقى الأدعية في قلوب الابناء حفاوة لا مثيل لدفئها وسحرها، وتظل تحوط الأبناء في سكناتهم وحركاتهم، احرارا داخل الجنوب المحتل، ام مكبلين في سجونه ام حتى منازيح عنه داخل باقي لبنان ام مغتربين في خارجه.

لا يسع المرء حين يرى مفاعيل هذا الخطاب "النسوي" الا ان يسجل شأن نفوذ المرأة العاطفي وقدرتها على التاثير في اجواء الصمود والمقاومة، والقدرة على ضخ دائم لمعنى الحياة في اجيال الابناء صغارا ام كبارا. مع التنويه بان مقاومة المرأة هذه، ليست مقاومة مطوية على نفسها، سرية خفية او محصورة في حقول تدريب، فهي قائمة منتشرة، ضوعها على الالسن والوجوه، ولا ينفع معها استطلاع او تجسس. وهي تخطر متهادية، تتدخل في كل شيء وترى كل شيء. كذلك لا تمتد خطوطا مستقيمة من بداية ونهاية، ولكنها تعس، تطوف شفافة في احياء المجتمع ومناحيه، سائرة على الالسن هونا، دون ان ينتقص من مراميها او يحجبها عن الوصول والتأثير حاجز او حصار او احكام منع التجول.

لقد تبدلت الهيئة الجنوبية اليوم، وتذرذر الجنوبيون في مواطن شتى وفي إقامات شتى وفي مقادير شتى، جديدة قصية مديدة، مذ ذاك راحوا يفتقدون طعم ذاكرتهم ويغيرون مواضع ومواضيع احلامهم، مع بعد المزار او مع تغيير امكنة النشأة الاولى ومسقط الرأس.

هل من الممكن ان يكون الجنوبي جنوبيا، دون ان يستدعي حيا حيا وزاروبا زاروبا وبيتا بيتا، دون ان يستذكر بركة البلدة قطرة قطرة، ودون ان يستذكر حواكيرها ميادين لهوه ولعبه ميدانا ميدانا واشجارها شجرة شجرة وعشا عشا، دون ان يستذكر صخورها واحجارها التي تمتد الى ما لا نهاية كقطعان الغنم، دون ان يستذكر بعض كبار مشايخها الذاهلين في زوايا غرفهم في بطون التواريخ والكتب، او المتوقدين حيوية وحركة في مجالس العصاري والمسايا، والمفوهين فيها بفصحى صافية تتنزل من افواههم تنزيلا في هذه المجالس التي تلم بطرف من كل شيء. هل يكون الجنوبي جنوبيا اذا لم يستو دبيكا في ساحة بلدته الصغيرة، ساحة الرغبات التي تضطرب ... يتحلق القرويون في الدبكة على طريقة (فرخة وديك). اذن هي فرصة... قد تكون في العاشرة او الخامسة عشر والنساء كلهن امامك دفعة واحدة بكامل زينتهن، بمختلف روائحهن ... وأنت ايها الصغير الذي طالما اشتهيت المحصنات منهن لا يلتفت اليك احد...

هل من الممكن ان يكون الجنوبي جنوبيا دون ان يستذكر الادعية المحمولة على ارجوحة السحر بنبرة ابتهال طائرة مطلع الفجر، تهدهد نوم الاولاد في نصف اغفاءاتهم او في نصف يقظتهم : يا رضا الله ورضا الوالدين، يا من قصدوك وجدوك يا رب، يا صباح السرور يا مدبر الامور؟

كانت اللحمة ما بين الجنوب وبين ذاكرة الانسان الجنوبي "صندوقا اسود" يسجل حركاته وسكناته لحمة لا تعرف فواصل او انقطاع. كانت الارض والبشر تتكاثف في عمق مسيرة الفرد، تنتشر في طيات شخصيته وفي حناياها، يتقلب فيها على اوسع مدى، او يتكور على اصغر نقطة. وهكذا يدخل في نسيج السيرة الخاصة اخبار علماء الاقاصي ومقاتل ائمة وشهداء، وذكريات ومجالس ومنتديات، فكأن السيرة الخاصة لا تعدو ان تكون راوية او قصاصا، يحكي ما جرى بدون ان يتوقف كثيرا عند رمز الحكاية او صاحبها.

هل يحق لي ان اهذي بكل تلك الاخبار، حين احس الآن ان تلك السيرة الكبيرة التي اغتسلنا جميعا فيها تتوزع، ويكاد لا يبقى لنا منها في هذه الفرقة التي تقتحم البيوت والاهل سوى حنين بلا أفق.