حين يرد ذكر سماحة الإمام المغيب السيد موسى الصدر، يحضر في البال انه رجل ثلاثة:
رجل الاعتراض العميق على الحرب التي أوقدت في لبنان، تقبيحها والحضّ على إيقافها.
رجل المحافظة على الكيان اللبناني، لا تنتقص منه تجزئة ولا تذيبه وحدة، لا يتواضع عليها اللبنانيون جميعاً بالرضا، وإذا كان النظام الطائفي جائراً، وهو كذلك، فإن جوره ينبغي ألا يذهب بنا مذهب من رفض الكيان والوطن، وهما من الثوابت، بل مذهب رفض هذه التركيبة الطائفية بعينها، والتوافق على تبديلها، سلماً وتدريجاً، بما ينصف المحرومين في وطنهم.
رجل الحوار المسيحي – الاسلامي. يريد باباً للتقارب والفهم المتبادل، بما يثري العيش المشترك ويقيمه على قواعد أكثر رسوخاً من مجرد التساكن بريٍبة{ وتوجس، في انتظار ظروف تسمح بالغلبة او المغالبة.
والحقّ أن ما يستقر في الذاكرة عن سماحة الإمام هو عينه ما كانه فعلاً.
ففي شأن الحرب وما يصاحبها من عنف، كان قاطعاً في رفضه العنف، وإدانة من يتوسّلونه طريقاً للتغيير، لأنه مجلبة تدمير للكيان والبلد، وتمزيق لنسيج العيش المشترك.
من هنا اصطدامه بالقوى والاجسام السياسية، يمينية ويسارية، التي شاركت في الحرب، سواء مبادرة وفعلاً أو انسياقاً ورداً، ورفض الشعارات التي سوغت مشاركتها. ولعله كان الأكثر افصاحاً عن رفضه في هذا النصّ الجامع: "قلت منذ سنة، وكرّرته بعد ذلك عشرات المرات: ان السلاح زينة الرجال، كي أهيىء أبناء أمتي، وخصوصاً في الجنوب، لمجابهة العدو المسلح. أما الآن بعد ان برز السلاح في محنتنا الاخيرة بأبشع صورة كماً ونوعاً ضد أحياء مدينة آمنة، ثم نرى الذي يستعمل هذا السلاح الفتاك هو مواطن يعمل ضد وطنه ومواطنه، بعدما أحسّ أنهما أعزلان من السلاح، فقد أصبح هذا السلاح مُداناً، مساهماً في تمزيق الوطن، مساعداً لتدهور الأخلاق، وفي تعريض الوطن والأمن للانفجار. لذلك فإن استعمال السلاح لأي هدف كان لا يخدم هذا الهدف ولا يخدم الوطن".
لكن رفضه العنف، ومن جانب القوى اليسارية تخصيصاً، ولم يرادف لديه تبريرٌ لعنف السطلة، وهذا القائل: "كما اننا لا نقبل العنف وسيلة للتغيير، فمن باب أولى أننا لا نقبل بالعنف لمنعه، وإلا وقعنا في ديكتاتورية خيرٌ منها الثورة".
تأسيساً، على ذلك، طرح الإمام برنامج التغييري حول بنية السلطة السياسية، فنادى بإلغاء الطائفية السياسية، أو جعل النظام الطائفي أدنى إلى العدل، بحيث يعبر فعلاً عن المكوّنات الطائفية للبلاد، في توازن لا يلغي أحداً ولا يستتبع أحداً. وغني عن القول إنّ صيغة 1943 بما كانت تنطوي عليه من شراكة سنية – مارونية، لم تكن مطواعة بما يكفي لاستقبال الصعود السياسي للطائفة الشيعية، وإدراجه ضمن توازنات النظام، بل هي صيغة أغلقت على نفسها، وانقطعت عن ان تكون تعبيراً فعلياً عن الخريطة السياسية والاجتماعية الحقيقية في البلاد، مما جعل الاعتراض الشيعي السياسي يأخذ لوناً من الاعتراض الشعبي من خارج المؤسسات الرسمية.
وقد كان سماحته واضحاً في إعلانه "إننا نقترح على اللبنانيين جميعاً تبديلاً عميقاً للوضع السياسي المُمارس في البلد بالغاء الطائفية أو تطوير ممارستها" (24/1/75).
هذا التطوير الذي أوجزه هنا، عمد إلى تفصيله في مواضع اخرى حيث قال: "النظام الديموقراطي البرلماني، أو الطابع الطائفي في لبنان ارتضاه اللبنانيون ولم يقبلوا عنه بديلاً، وهو في نظرنا يحتاج إلى تطور يلبي الحاجات المتزايدة، والتي تبعد عنه النقائص الموجودة. وفي هذا الصدد أقدم اقتراحاً مبنياً على أصلين:
الأول: إعتماد مبدأ الكفاءات في الوظائف والمراكز بمعزل عن الانتماءات الطائفية.
الثاني: إنشاء مجلس واحد يضم ممثلين عن كافة الطوائف اللبنانية".
ولم يغب عن بال سماحته ان قانون الانتخاب النيابي يشكل مفصلاً رئيسياً في إنتاج الطبقة السياسية الحاكمة، وهو يحول دون وصول قوى التغيير وصولاً طبيعياً وسلمياً، لذلك حرص على أن يجعل تغيير قانون الانتخاب في صلب أي مشروع إصلاحي: "كما أن الوسائل الديموقراطية كفيلة بالتطور الهادئ الهادف، فإن هذه الوسائل تبقى عديمة الجدوى إذا لم يتغيّر قانون الانتخاب بآخر – يتيح التمثيل الأفضل لتطلعات الرأي العام في لبنان" (11/9/1975).
وفي رفضه العنف، كما في اقتراحه برنامجاً تطويرياً هادئاً كان سماحته ينطلق من ثوابت في رؤية لبنان، هي التي تشكّل أصل نظرته، وهي التي تمنح التفسير الصحيح لمختلف مواقفه. واخصّ هذه الثوابت هي:
1- لبنان هو تعريفاً، التعايش المسيحي – الاسلامي. التعايش هو معنى لبنان ومبرر قيامه "وحدة لبنان هي ميزة وجوده. فهاتوا لنا ميزة غير التعايش. التعايش هو الميزة الحية. المزايا الأخرى سابقة وليست مستقبلية. إن الرسالة في لبنان هي التعايش. التعايش اللبناني أقدم من الميثاق الوطني ومن واضعيه. التعايش من صميم الحياة".
ويضيف في موقع آخر بات يُعرف بشرعة الإمام الكبرى ووصيته الأولى: "ان التعايش الإسلامي المسيحي ثروة يجب التمسك بها، ومعالجة كل الصعاب التي تعترضها".
2- هذا التعايش ليس حاجة لبنانية داخلية فحسب، بل هو حاجة حضارية عامة تفيد منها سائر الأمم والشعوب. "فالتعايش ليس ملكاً للبنانيين فحسب، ولكنه أمانة في يد اللبنانيين، ومسؤوليتُهم وواجبهم وليس حقهم فحسب".
ويذهب أبعد في القول: "التعايش هو ضرورة حضارية بحتة. العلاقات الدينية بين الطوائف المختلفة، وبين ابناء مذهبهم في الخارج، تجعل الطوائف نوافذ حضارية على جميع العالم وحضاراته وثقافاته".
هنا بالضبط تكمن مساهمة فريدة للامام. فَصِلة الطوائف اللبنانية بمرجعياتها الروحية في الخارج، استحسنها الإمام كونها تجعل الطوائف نوافذ حضارية، وهو ما يناقض تماماً استتباع الطوائف للخارج، ابتغاء انقاذ غلبة أو تحصيلاً لغلبة مضادة. ولعل واحدة من مآسي الحرب تكمن هنا. فالنافذة الحضارية استحالت، مع الذين سادوا على طوائفهم بالحديد والنار، التحاقاً بشعاً بالخارج، وتوظيفاً له في صراعات الداخل، مما أفرغ الداخل تماماً، وأحال لبنان ساحة تجاذب وصراع بالواسطة، وأساء على وجه التخصيص للكتل الطائفية التي نطقوا باسمها وتحكموا بخياراتها.
3- المسيحيون في لبنان أصحاب دور مخصوص، ينبغي لهم ألا ينسوه أو يطمروه، أما المسيحيون في العالم فيعرفون كم هي رائعة رسالة مسيحيي لبنان وسامية. أليسوا هم عناصر الاستيعاب والنقل والتفاعل؟ أليس بسببهم سُمّي بنافذة الحضارة المشرقية في تجارب الغرب، ألم يرحلوا إلى الغرب بأعمق ما في روحانية الشرق؟ ويقفلوا إلى الشرق بأجدى ما في تجارب الغرب؟".
أليس بسبب هذا الموقف الذي التزمه، طاف لبنان داعية حوار في الكنائس ومنابر الرأي المسيحية، وعندما أطلق حركة "أمل" اصرّ ان يتشارك المسلمون والمسيحيون في التأسيس على نحو كامل، فحفلت الهيئة التأسيسية بأسماء مسيحيين ثقاة في مواقعهم ونوعية تمثيلهم؟
.... ولأن الإمام كان ما كان، نفتقده بحرقة اليوم، نفتقد الشخص الآسر والفكر الآسر، فيما المسائل التي انقطع إليها جهاده ما زالت تحتاج إلى مجاهدين.
فالحربُ، وإنْ ولّت حامية، لكنها لم تخلُ مكانها لسلمٍ أهلي حقيقي. فما نعيشه أدنى إلى الحرب الباردة، اجتماع عناصر قد توقد الحرب، وإنْ بعد سنوات.
والاصلاح السياسي، الذي قال به اتفاق الطائف، أفرغ من مضمونه وجاءت نتائجه عكس ما ارتجاه الاغيار، فأوغلنا أبعد في الطائفية عوض أن نقترب من إلغائها، وبات قانون الانتخاب أسوأ، وأصحاب الكفايات يقصون من الوظائف ليحل محلّهم حملة المباخرة من السقماء.
والعلاقات المسيحية – الاسلامية ليست في خير تماماً، وكم هي تشتاق إلى قامة الإمام وعباءته.
أليس ليسود ما هو سائدٌ اليوم أزاحوه من الطريق؟ ولكن من يلغيه من القلوب؟