بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على جميعا لأنبياء والمرسلين لا سيما أفضلهم وأشرفهم محمد (صلى) والأصفياء الميامين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
لقد أحببت بداية ان أتحدث بشيء من التفصيل، ولكن إصرار حضرات المسؤولين عن المؤتمر في تحديد الوقت جعلني أختصر مقالتي انسجاماً مع البرنامج الموضوع في هذا اللقاء الكريم؛ لذا أشكر للأخوة المسؤولين حيث أتاحوا لي الفرصة للتحدث إلى الحضور الكريم عن علاقتي وكيفية تعرفي وارتباطي بالإمام السيد موسى الصدر، وتوضيح السبب الذي دعاني إلى التأليف عن حياة هذا الرجل الكبير، والتعرض لنضاله وجهاده.
لقد سمعت باسم الإمام موسى الصدر لأول مرة بواسطة الإعلام والصحف الواسعة الانتشار، وهي تذكر خبر اختفاء هذه الشخصية الحبيبة إلى العالم أجمع. وذلك في الوقت الذي كان سماحة الإمام الخميني – رضوان الله تعالى عليه – لا يزال في النجف الاشرف، يقود الثورة الإسلامية في إيران بخطبه الحماسية. في ذلك الوقت كان الإمام موسى الصدر احد الشخصيات السياسية والثورية في العالم. فعندما سمع بنداء هذه الثورة السماوي التحم معها بفكره وقلبه، حيث كتب قبل إختفائه بأسبوع واحد مقالة في صحيفة "لوموند"، وذكر الثورة الإسلامية في إيران، وعرّفها إلى العالم بأنها إدامةً لحركة الأنبياء (عليهم السلام) وأن الإمام الخميني هو القائد الأوحد لهذه الثورة.
وكنت أنا في ذلك الوقت شاباً إيرانياً في الثامنة عشرة من العمر، أتابع هذا الموضوع، وأحب التعرف أكثر عليه. وحينئذٍ نزلت في الصحف صور للإمام موسى الصدر إلى جانب الأخبار المتعلقة بموضوع اختفائه. وعندما رأيت للمرة الأولى صورته في إحدى الصحف، وشاهدت طلعته البهية ذكرتني بالنبي موسى كليم الله (عليه السلام)، وتداعى إلى ذهني جهاده المستميت لفرعون وقومه.
لم استطع في ذلك الوقت، لصغر سني فهم المناسبة والنتيجة لهذا التداعي، ولكن بعد ان تسنّى لي دخول الحوزة العلمية، ومطالعة تاريخ الأنبياء والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وتراجم الأصحاب والتابعين والرواة والنواب الأربعة، ومن جهة أخرى ازدادت معرفتي بخصوصيات حياة الإمام موسى الصدر وجهاده وخدماته وأفكاره وأخلاقه. عند ذلك أدركت عمق هذه الشخصية الفذّة، وعلمت بجميع وجودي انها ليست طلعة النبي موسى (عليه السلام) فحسب، بل ان سيرة وسنة جميع الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام) تتداعى وتتجسد في القامة العصماء لهذه الشخصية العالمية الكبرى. لقد كانت مسيرة حياته الشريفة تجسيداً تاريخياً لما قرأته عن حياة بلال الحبشي وسلمان وأبي ذر ومحمد بن أبي بكر ومالك الأشتر وابن عباس وأمثالهم. ومن نظرات هذا العالم الفاضل النافذة، يمكن بسهولة الاطلاع معنوياً على أحاديث محمد بن مسلم وزارة بن أعين وابن أبي عمير وعلي بن يقطين وغيرهم.
ان نضاله من خلال المجلس الشيعي الأعلى، الذي أسسه، يرسم لنا جيداً خلاصة شبيهة بسفارة ونيابة النواب الأربعة الذين أداروا بأحسن وجه أمور الشيعة في زمان الغيبة الصغرى للإمام الثاني عشر – عجل الله فرجه الشريف. وأخيراً، أدركت هذه الحقيقة أيضاً، وهي ان شخصية الإمام موسى الصدر من الشخصيات النادرة التي لا يصل عددها في كل عصر عدد أصابع الكف، وتعتبر في لسان الروايات الشريفة من حيث المقام والمنزلة أفضل من أنبياء بني إسرائيل.
وعندما وجدت الإمام موسى الصدر بهذا القدر من الجامعية والإحاطة توصلت إلى هذه النتيجة، وهي ان كتابة وتحرير مقتطفات من حياة هذا الرجل الكبير مفيدة جداً لشبابنا في هذا العصر، ويمثل أسوة وقدوة لهم، بل لجميع الناس في العالم وحتى للشخصيات العلمية والدينية والسياسية ايضاً.
وبما ان الوقت في هذا المؤتمر الشريف ضيّق، أجدني ببعض الخصائص والمميزات لهذا الرجل العظيم التي لا يمكن ان تكون أهم عوامل وأسبابا موفقيته، وأشير هنا إجمالا إلى عدة موارد منها:
الأول – ان أول ظاهرة في وجود الإمام موسى الصدر، تبرز وتتجلى أكثر من سائر الصفات هي سعة وعمق اجتهاده وقدرته الفقهية، فهو قبل ان يكون رجلاً سياسياً او شيء آخر، كان فقهياً ومجتهداً جامعاً للشرائط ولا يوجد أدنى شكٍ في اجتهاده واصل فقاهته، الا ان هذا الرجل النادر مضافاً إلى توفر الشرائط المرسومة في الاجتهاد، في الكتب الفقهية، لقد كان يضم إليه بعض الخصوصيات التي تجعل منع عالماً مقتدراً في مواجهة المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية وغيرها.
وهنا، وقد وصلنا إلى نقطة حساسة، فإني لا أجد الجرأة الكافية لكن أنظر في هذا المجال، ولهذا لا بد في هذا الأمر المهم من الاستمداد والاستعانة بكلمات الأمان الخميني – رضوان الله تعالى عليه – مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، لقد بيًن الإمام الراحل في بيانه التاريخي إلى مراجع الإسلام والروحانيين والحوزات العلمية الشرائط التي لا بد من توفرها في المجتهد الجامع للشرائط وقال:
"ان من صفات المجتهد الجامع للشرائط هي ان يكون على معرفة في كيفية التصدي للمكائد الثقافية والفكرية الحاكمة، على العالم ان يكون على بصيرة في الامور الاقتصادية، ومنها الاطلاع على كيفية المقابلة للإقتصاد العالمي الحاكم، ومعرفة السياسات والنظام الماركسي اللذين يرسمان في الحقيقة إستراتيجية الحكومة على العالم، يجب ان يكون المجتهد ذكياً ومتمرساً ومقتدراًُ على هداية المجتمع الإسلامي الكبير، بل وحتى المجتمعات غير الإسلامية ايضاً، ومضافاً إلى الإخلاص والتقوى والزهد التي لا بد من توفرها في كل مجتهد. ولا بد ان يكون مديراً ومدبراً أيضاً" .
أخوتي وأخواتي الأعزاء:
لو أردنا في هذا الزمان ان نجد مصداقاً او مصاديق لهذا المقطع من كلام الإمام الراحل، فلا بد من القول بأن من المصاديق القطعية البارزة هو شخص الإمام موسى الصدر، كما كان الإمام الخميني قبل خمس وثلاثين سنة، فقد تنبه إلى هذه الحقيقة وقد أخبر في حينه عن جامعية وحنكة الإمام موسى الصدر، فقد ذكر لي أحد كبار علماء حوزة النجف الأشرف، وهو الآن مشغول بتدريس البحث الخارجي في الفقه والأصول في الحوزة العلمية في قم المقدسة بأنه تشرف يوماً بالحضور عند الإمام الخميني – رضوان الله تعالى عليه – في النجف الأشرف، وتطرق الحديث إلى الثورة الإسلامية في إيران ضد الشاه حيث قال للإمام:
"نفرض أنكم انتصرتم في هذه الثورة، وتم إسقاط النظام الطاغوتي الحاكم، فهل لديكم من اللياقة ليتولى الأمور، ويكون على رأس الحكومة، ويستطيع إدارة أمور الدورة بنجاح؟ عندئذ الإمام الخميني (قدس سره) ذكر الإمام موسى الصدر في هذا المجال".
الثاني: من جملة السمات البارزة للإمام موسى الصدر، شجاعته العديمة النظير، وهذه الصفة قد تجسدت في مختلف أدوار حياته الشريفة، ولأن لها الأثر أكثر في ترسيم شخصيته. فقد عاش في محيط كان فيه "تعلم اللغة الأجنبية يعد كفراً، والفلسفة والعلافان معصية وشركاً، والتدخل في السياسة ليس من شأن الفقيه، والدخول في صراع مع السياسيين مقرون بتهمة العمالة للأجنبي".
ولكن نحن نرى ان هذا الطالب الشجاع والروحاني العرف لم يأبه لذلك المحيط، ولم يتردد في كسر هذا الطوق بشجاعة فائقة، فكان يشارك في دروس الفلسفة والعرفان ويتعلم اللغة الأجنبية، والأهم من ذلك كان يتدخل في السياسة علناً إلى ان تقبّل بعد مدة المسؤولية السياسية المهمة، وترك النجف مغادراً إلى جنوب لبنان. وفي هذا البلد قام الإمام الصدر بإنجازات مهمة وعجيبة لم يكن أحد من علماء الشيعة بإمكانه القيام بها، ولم يتجرأ على الإتيان بها حتى من هو أعلى منه مرتبة من الشخصيات العلمية الإسلامية طبعاً.
الثالث: السمة الأخرى التي بإمكاني ذكرها للأخوة والأموات الحضور، والتي تعتبر رمز موفقيته كما هو شأن الأنبياء الكرام وخاصة نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في سيرتهم وسلوكهم لخدمة الإنسانية وهداية البشرية، هو أنهم لم يرتبطوا بفئة خاصة مطلقاً؛ ولذا كان هذا الرجل العظيم، وتبعاُ لسيرة الأنبياء العظام (عليهم السلام)، قد طرح نفسه على أنه خادم وحامٍ ومدافع عن جميع الناس، أعم من الشيعة والسنة والمسيحيين وغيرهم. فكان عاشقاً لجميع الناس ومختلف الشعوب المقهورة والمضطهدة، وقد نجده يخطو خطوات أكثر في الدفاع عن حقوق الشيعة، إلا ان ذلك لا يعني سوى ان هذه الطائفة الكبيرة من الشعب قد تعرضت لظلم وعدوان أكثر من الطوائف الأخرى من سائر الأديان والمذاهب.
وهذا الموضوع، في أنظار أكثرية الشعب اللبناني، هو كالشمس في رابعة النهار، ولكن بالنسبة إلى الأخوة الأعزاء الذين يريدون التعرف على شخصية الإمام الصدر، أشير إلى مورد واحد هو قضية بائع البوظة المسيحي في مدينة صور، وأترك لهم الحكم والقضاء.
الرابع: ان موضوع الوحدة هو من المواضيع المهمة في العالم الإسلامي وهنا نجد ان للإمام موسى الصدر دوراً مهماً ومصيرياً وحياتياً، فإنه وبالإلهام من الدين الإسلامي الأصيل، تابع هذا الأمر المهم بمنتهى القدرة، واستطاع في مدة قصيرة ان يحقق الوحدة والإنسجام، ليس على صعيد المذاهب الإسلامية فحسب، بل بين المسلمين والمسيحيين كذلك. وهذا الأمر قلّما تحقق مثله في تاريخ لبنان.
هنا كلام طويل، لكن لا أحب ان أطيل على أعزائي أكثر من هذا، ورجائي الوحيد في هذه الظروف الفعلية الحساسة، ان يأخذ الأعزاء هذا الموضوع مأخذ الجد، ولا يغفلوا عنه، او يتسامحوا فقيه، فلا بد من الاهتمام بهذا الأصل الإسلامي الإنساني من قبل جميع الأطراف والتنظيمات الفاعلة في الساحة.
الخامس: أحد المواضيع المهمة الأخرى التي لها مكانة رفيعة في حياة هذه الشخصية الكبيرة اهتمامه بقضية احتلال فلسطين، وتحرير الأراضي الإسلامية المقدسة من نير الصهاينة الحاقدين، فكان يطرح هذا الموضوع في كل فرصة مناسبة، بل كان يرى ان عادة الحضارة الإسلامية، وإعمار البيت الإسلامي، يمر من خلال قضية فلسطين. هذا في زمن كانت أكثر الدول العربية قد وقعت أسيرة الخوف والرعب من القدرة العسكرية لأمريكا وإسرائيل، وارتفعت نغمات الصلح في المحافل المثقفة، وإن الثورة ضد المحتل عقيمة، والدفاع مقابل الصهاينة لا ثمرة فيه. نعم في تلك الظروف الحرجة، كان صوت الإمام الصدر هو الذي يبعث الأمل والنشاط والقوة في قلوب المناضلين الفلسطينيين واللبنانيين. لقد كان يرى قضية احتلال فلسطين الجريحة من منظاره الواسع، فلم يكتف على اعتبارها مسالة إسلامية مهمة، ولم يقنع في الاهتمام بها بهذا المقدار، بل كان يسعى إلى طرحها إلى العالم وإلى أحرار مختلف الشعوب من زاوية فطرية إنسانية وفي شعاع أوسع وتصوير قابل للإفهام.
والآن يمكن القول بجرأة: انه ما من حجر تقذفه اليوم أيدي أشبال فلسطين نحو الحافلات وسيارات العدو الصهيوني وجنوده المسلحين، وما من قذيفة تبعث من فوهات مدافع المجاهدين، وما من رصاصة تنطلق من بنادق أبناء الجنوب المناضلين، تطلق نحو قلوب الصهاينة الحاقدين، الا وللإمام موسى الصدر سهم في ذلك. نعم إن هذا الفقيه المجاهد، شريكهم في ذلك بما بذل من روحه وجسمه وعواطفه وعمره في الطريق الشائك، صحيح ان للثورة الإسلامية في إيران تأثيرها الذي لا ينكر، ولا ينبغي التغافل عنه الا أنه مع ذلك فالحجر الأساس قد وضع بتلك اليد الباركة.
وأخيراً لا بد من ذكر عدة نقاط مهمة حسن ختام كلامي هذا:
أولا: يجب ان يكون معلوماً ان أبعاد وجود الإمام موسى الصدر بمنزلة المحيط البعيد الأعماق الواسع المدى، كلما حاولنا الغوص في أعماقه وتحصيل اللؤلؤ والمرجان من بركاته فلا نستطيع دركه وفهمه إلا بمقدار قدرتنا وذوقنا وميزان تفاعلنا مع قضاياه. ولهذا فإن إدراك جميع الأبعاد لهذا الرجل العظيم من الصعوبة جداً، وما قدمناه في هذا المقال كان قطرة من ذلك المحيط الواسع الأطراف.
ثانياً: يجب علي في هذا المحفل المبارك والمجلس الكريم، ان أذكر شخصية أخرى أثير إلى مجاهد عارف وعارف واصل والعضد الأيمن للإمام موسى الصدر، أعنى الشهيد العظيم الدكتور مصطفى يمران، الرجل الذي يحتاج الحديث عن حياته المليئة بالفخر والحماسة والبطولة إلى مجال خاص، واستفدت استفادة كاملة من مخطوطات وخواطر وخطابات هذا المجاهد في سبيل الله طوال أيام تحقيقاتي في حياة الإمام موسى الصدر.
ثالثاً: واما اليوم ومع الأسف الشديد، إن حرمت الأمة في لبنان والعالم الإسلامي، بل العالم البشري بأسره من قيادة الإمام موسى الصدر، وأصيب المسلمون بخسارة فادحة من هذه الناحية، ولكن ما يبعث على الأمل والغبطة للشعوب المظلومة، أننا نرى تفتح براعم من نواياه وأهدافه وطموحاته المقدسة وظهورها وتحققها على أرض الواقع قد ظهر بترسيخ دعائم الثورة الإسلامية المباركة في إيران.
على أمل ذلك اليوم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته