رحلة أخيرة اختاره الإمام رفيقاً فيها:الصحافي "الدمث" عباس بدر الدين، أصدقاء وعائلة وزملاء مشتاقون

calendar icon 26 آب 2005 الكاتب:ح. ز

تمر الأيام بعائلة الإعلامي الهادئ الذكي، رتيبة، غُيِّب عباس بدر الدين في آب/ اغسطس 1978، وترك شتاءً من الأوضاع الخطرة في صيف لاهب اشتعل حينما رحل رجال ثلاثة: إمام وشيخ وصحافي.‏

رفيق درب الإمام موسى الصدر، المحبب الى قلبه، والمؤتمن عنده، رافق الإمام في عبور أخير.‏

جمع صفات حسنة، جمعها له معدنه الرقيق والقوي عند الملمات.‏

لبَّى دعوة الإمام الصدر ورافقه الى ليبيا، على مضض، ليساهم في طرح القضية اللبنانية وتفاصيلها هناك، هل يعود؟ ذلك الصديق حتى لمنافسيه في المهنة.‏

أمُّ فضل تنتظر، و"يعز عليها أن تصلها بطاقتان في كل عام، عندما تحين ذكرى الغياب".‏

ولد عباس بدر الدين في شباط/ فبراير من عام 1938 في مدينة النبطية في حي البياض. تلقى دراسته الابتدائية في المدينة، واهتم بالأدب العربي الى أن حاز إجازة فيه من الجامعة اليسوعية.‏

توفي والده وهو في الرابعة عشرة من عمره، فسانده خاله الدكتور علي بدر الدين.‏

عمل في صحف عدة، منها "الخواطر" و"السياسة" ورافق الصحافي الراحل رياض طه في وكالة "أنباء الشرق"، تزوج بالسيدة زهرة يزبك، وعقد القران الإمام موسى الصدر.‏

طموح، وقاده إصراره الى إنشاء "وكالة أخبار لبنان"، وحرص عليها لتصبح في المقدمة في لبنان وخارجه. ترشح لعضوية المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وانتخب بعد نجاحه للأمانة العامة فيه.‏

بعد سبعة وعشرين عاماً من الغياب، تبقى العائلة محافظة على الأمل..‏

أولاده، فضل وزاهر ونادين، والسيدة زهرة، يلاحقون هذه الذكرى بكلام وذكريات.‏

المميزات ترسم بدر الدين‏

"عباس إنسان صبور، هادئ، يحب فعل الخير للناس، وأمضى نصف وقته يخدم من يستحق منهم. ناجح، قريب من القلوب"، تصفه زوجه زهرة بدر الدين، وتتذكر، "لقد كان مخلصاً لأصدقائه ولا يمل منهم، أمضى معظم وقته في العمل".‏

ظروف العمل في الوكالة وشجون الحياة لم يسمحا لعباس بدر الدين أن يرى عائلته بشكل طبيعي. "لم نكن نرى عباس إلا نادراً. من طبعه، إذا أراد فعل شيء يصر على النجاح فيه ولو على حساب صحته وراحته، كنت ألاحظه، يعطي أكثر من طاقته"، تضيف السيدة زهرة.‏

عُرف عباس بدر الدين من خلال موضوعية كتاباته الصحافية، إنه حسن الخلق ويتسم بالرزانة والجدية. كان يلاحق الخبر ويصوغه بأمانة.‏

بعد تعاظم عمله وارتباطاته، سلَّم الأمانة العامة للمجلس الشيعي الى الدكتور أحمد زروة ليرعى شؤونها، الأمر الذي زاد مكانته لدى الإمام الصدر وخصوصاً بعد أن عزف عن الترشح للانتخابات الثانية في المجلس.‏

صداقة المحبين‏

عرفه منذ العام 1961، وجمعتهما لقاءات عدة. "الإمام لا يحتاج الى من ينصحه. لكن مهما بلغ ذكاء الإنسان فإنه يأخذ كلام الآخرين إذا كان نصيحة ذات فائدة"، تقول السيدة زهرة: "كانت النصيحة قائمة بينهما. الجميل في الإمام أنه يقبل النصيحة ممن يحب".‏

ويُحدِّثنا نجله زاهر، قائلاً: "تخبرني أمي عن خلوات طويلة بين أبي والإمام موسى الصدر، اجتماعات دائمة بينهما قبل انعقاد جلسات المجلس الشيعي وإثرها".‏

يشهد زملاء ورفاق عباس بدر الدين أن علاقته بالإمام أساسها الإعجاب والتقدير والمحبة.‏

وقد ساهم في تكوين نواة إعلام مقاوم للكيان الصهيوني، واعتمده الإمام الصدر ليضيء على شؤونه الإعلامية، وناقلاً لأخباره وتصريحاته الى الصحف ووكالات الأنباء، ولذلك اختاره الإمام الصدر ليكون رفيقاً في السفر الى ليبيا.‏

النظام والفراغ‏

"عباس مثقف جداً لكثرة مطالعته الكتب، قرأ نهج البلاغة للإمام علي (ع)"، تتطرق زوجه الى نظام حياته: "إذا وعدني بأنه سيأتي لاصطحابي في موعد معين، يأتي قبل حينه بخمس دقائق"، ولديه جانب يضيء عليه ابنه زاهر: "كان والدي يقدِّم الخدمات الى الفلسطينيين من خلال أحد أصدقائه في المديرية العامة للاجئين الفلسطينيين. كان يملأ سيارته بلوازم العيش من طعام وأدوات منزلية ويوزعها بنفسه بالتعاون مع ذلك الصديق، لا يحسد أحداً، وحتى الموظفين الذين عمل معهم، إذا رأى أحدهم قد تحسن مركزه، تمنى له الخير وفرح له".‏

أما خطواته، فكان يدرسها بعناية، فالزوجة تعرف، "هذا أحد أسباب نجاحه في الحياة. لم يكن عشوائياً بل يدرس الأمور التي يقوم بها. يشاورني في مختلف الأمور"، وتستحضر أمراً "قبل أن نرزق بفضل نال عباس إجازة في الأدب العربي من الجامعة اليسوعية. درّسه فؤاد إفرام البستاني. أراد عباس نيل شهادة الدكتوراه لكن وقته لم يساعده"، وأوقات الفراغ كان يستغلها بالذهاب الى الناقورة (مسقط رأس زوجه) "لقد أحب الزراعة، وجعلته يحبها" وكلما أراد أن يفرح يأتي الى الناقورة ليمارسها، ويزرع.. كنا نهتم بأولادنا، وبرغم كثافة عمله كان يؤدي واجباته كالتعزية أينما كانت، لدرجة أني انزعجت من ذلك كثيراً".‏

ارتباك وخوف على الإمام‏

هل تغيرت تصرفاته في تلك الأيام، في الأسبوع الأخير؟ اتفق الإمام الصدر وعباس بدر الدين على السفر الى ليبيا فور عودة الإمام من زيارة الى الجزائر. واعتذر بدر الدين من الإمام لعدم تمكنه من مرافقته الى الجزائر لأنه علم قبل يومين بالموعد.‏

ردد بدر الدين هذه الجملة كثيراً "هل من الممكن أن يصيبنا أذى في ليبيا. سألته زوجته السيدة زهرة عن موعد السفر مراراً وجوابه تكرر "بعد عودة الإمام من الجزائر، سنسافر".‏

كلَّف الإمام الصدر الدكتور مالك بدر الدين أولاً لهذه المهمة، لكنه اعتذر لأسباب صحية. فأصر الإمام في أثناء وجوده الدائم في مكاتب وكالة أخبار لبنان، على السيد عباس بدر الدين ليقبل بالمهمة، فوافق أخيراً".‏

"بدا عباس مضطرباً طوال الوقت، ليس من عاداته أن يتصرف معنا بهذه الطريقة، كان منزعجاً من نفسه، متخوفاً من الرحلة، متشائماً.."، وللسيدة زهرة لحظة هنا "كنت قد خرجت من المستشفى إثر مرض ألمَّ بي. ومع ذلك رافقته الى مدينة الزهراء (ع)، الجامعة الإسلامية في خلدة ـ وقادت السيارة ابنة اختي، حدثني عباس بأمر لم يذكره أحد: "هناك طائرة ليبية ستأخذنا الى هناك" قالها بعد وصولنا الى مدينة الزهراء (ع)، ولوح لي بيده واقفاً".‏

وعد عباس بدر الدين عائلته وموظفي الوكالة أنه سيعود قبل أربعة أيام من العيد. أكد لأسرته "سأكون في ليلة العيد معكم، فإن لم أقدر ففي يومه، يجب أن أكون معكم".‏

كان صامتاً غالب الوقت، أوصى السيدة التي تعد الطعام في المنزل "برعاية السيدة زهرة جيداً".‏

اصطحب أولاده الى أحد المطاعم ودعهم هناك، والقلق بادٍ في وجهه؟‏

زاهر، لا يمكنه أن ينسى المشهد التالي: "كنا في الجبل نصطاف في منزل الاستاذ فخري علامة، وفي إحدى السهرات جرى الحديث عن شؤم السفرة الى ليبيا. فامتعضت والدتي، لكن أبي طمأنها".‏

وفي المنزل ذاته، ناداني في إحدى المرات وأجلسني على ركبتيه قائلاً: "سيأتي يوم أراك فيه قد صرت رجلاً يعتمد عليك".‏

وتقول السيدة زهراء عن ذكرى تغييبه: "إنها مناسبة عزيزة، ضيف دائم: لا أحمّل المسؤولية لأحد، لكن يعز علي أن تأتيني بطاقتان في كل عام لهذه المناسبة".‏

وتقول السيدة زهرة كنت أتمنى أن يعيش أولادي مع أبيهم الحنون الذي كان يمازحهم كأنهم اخوته، انه متواضع انظر الى أولادي، أنا حزينة عليهم، احتمل جرحي".‏

يختم زاهر بدر الدين، مدير وكالة والده: "حان الوقت لظهور الحقيقة، هي محصورة بأفراد العائلات الذين يبحثون منفردين عنها، من أبسط الحقوق أن تُمد يد المساعدة إليهم في هذا المجال".‏

source